ويكون الرسول عليكم شهيدا ، أي محتجا بالتبليغ. وقيل : لتكونوا شهداء لمحمد صلىاللهعليهوسلم على الأمم ، اليهود والنصارى والمجوس ، قاله مجاهد. وقيل : شهداء على الناس في الدنيا ، فيما لا يصح إلا بشهادة العدول الأخيار. وأسباب هذه الشهادة ، أي شهادة هذه العدول أربعة : بمعاينة ، كالشهادة على الزنا ، وبخبر الصادق ، كالشهادة على الشهادة ؛ وبالاستفاضة ، كالشهادة على الأنساب ؛ وبالدلالة ، كالشهادة على الأملاك ، وكتعديل الشاهد وجرحه. وقال ابن دريد : الإشهاد أربعة : الملائكة بإثبات أعمال العباد ، والأنبياء ، وأمة محمد ، والجوارح. انتهى. ولما كان بين الرؤية بالبصر والإدراك بالبصيرة مناسبة شديدة ، سمي إدراك البصيرة : مشاهدة وشهودا ، وسمي العارف : شاهدا ومشاهدا ، ثم سميت الدلالة على الشيء : شهادة عليه ، لأنها هي التي بها صار الشاهد شاهدا. وقد اختص هذا اللفظ في عرف الشرع بمن يخبر عن حقوق الناس بألفاظ مخصوصة على جهات. قالوا : وفي هذه الآية دلالة على أن الأصل في المسلمين العدالة ، وهو مذهب أبي حنيفة ، واستدل بقوله : (أُمَّةً وَسَطاً) ، أي عدولا خيارا. وقال بقية العلماء : العدالة وصف عارض لا يثبت إلا ببينة ، وقد اختار المتأخرون من أصحاب أبي حنيفة ما عليه الجمهور ، لتغير أحوال الناس ، ولما غلب عليهم في هذا الوقت ، وهذا الخلاف في غير الحدود والقصاص.
(وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً) : لا خلاف أن الرسول هنا هو محمد صلىاللهعليهوسلم ، وفي شهادته أقوال : أحدها : شهادته عليهم أنه قد بلغهم رسالة ربه. الثاني : شهادته عليهم بإيمانهم. الثالث : يكون حجة عليهم. الرابع : تزكيته لهم وتعديله إياهم ، قاله عطاء ، قال : هذه الأمة شهداء على من ترك الحق من الناس أجمعين ، والرسول شهيد معدل مزك لهم. وروي في ذلك حديث. وقد تقدم أيضا ما روى البخاري في ذلك. واللام في قوله : لتكونوا هي ، لام كي ، أو لام الصيرورة عن من يرى ذلك ، فمجيء ما بعدها سببا لجعلهم خيارا ، أو عدولا ظاهرا. وأما كون شهادة الرسول عليهم سببا لجعلهم خيارا ، فظاهر أيضا ، لأنه إن كانت الشهادة بمعنى التزكية ، أو بأي معنى فسرت شهادته ، ففي ذلك الشرف التامّ لهم ، حيث كان أشرف المخلوقات هو الشاهد عليهم. ولما كان الشهيد كالرقيب على المشهود له ، جيء بكلمة على ، وتأخر حرف الجر في قوله : على الناس ، عما يتعلق به. جاء ذلك على الأصل ، إذ العامل أصله أن يتقدّم على المعمول. وأما في قوله : (عَلَيْكُمْ شَهِيداً) فتقدّمه من باب الاتساع في الكلام للفصاحة ، ولأن شهيدا أشبه