وعلم غير الله تعالى حادث ، فيصح تعليل الجعل بالعلم الحادث ، وكان التقدير : ليعلم الرسول والمؤمنون. وأتى بلفظ الرسول ، ولم يجر على ذلك الخطاب في قوله : (كُنْتَ عَلَيْها) ، فكان يكون الكلام من يتبعك ، لما في لفظه من الدلالة على الرسالة. وجاء الخطاب مكتنفا بذكر الرسول مرّتين ، لما في ذلك من الفصاحة والتفنن في البلاغة ، وليعلم أن المخاطب هو الموصوف بالرسالة. ولما كانت الشهادة والمتبوعية من الأمور الإلهية خاصة ، أتى بلفظ الرسول ، ليدل على أن ذلك هو مختص بالتبليغ المحض. ولما كان التوجه إلى الكعبة توجها إلى المكان الذي ألفه الإنسان ، وله إلى ذلك نزوع ، أتى بالخطاب دون لفظ الرسالة ، فقيل : (الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها) ، فهذه ، والله أعلم ، حكمة الالتفات هنا. وقوله : (يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ) كناية عن الرجوع عما كان فيه من إيمان أو شغل. والرجوع على العقب أسوأ أحوال الراجع في مشيه على وجهه ، فلذلك شبه المرتدّ في الدين به. والمعنى : أنه كان متلبسا بالإيمان ، فلما حوّلت القبلة ، ارتاب فعاد إلى الكفر ، فهذا انقلاب معنوي ، والانقلاب الحقيقي هو الرجوع إلى المكان الذي خرج منه. وقوله : (عَلى عَقِبَيْهِ) في موضع الحال ، أي ناكصا على عقبيه ، ومعناه أنه رجع إلى ما كان عليه ، لم يخلّ في رجوعه بأنه عاد من حيث جاء إلى الحالة الأولى التي كان عليها ، فهو قد ولي عما كان أقبل عليه ، ومشى أدراجه التي تقدّمت له ، وذلك مبالغة في التباسه بالشيء الذي يوصله إلى الأمر الذي كان فيه أوّلا. قالوا : وقد اختلفوا في أن هذه المحنة حصلت بسبب تعيين القبلة ، أو بسبب تحويلها. فقيل : بالأول ، لأنه كان يصلي إلى الكعبة ، ثم صلى إلى بيت المقدس ، فشق ذلك على العرب من حيث أنه ترك قبلتهم ثم صلى إلى الكعبة ، فشق ذلك على اليهود من حيث أنه ترك قبلتهم. وقال الأكثرون بالقول الثاني ، قالوا : لو كان محمد على يقين من أمره ، لما تغير رأيه. وروي أنه رجع ناس ممن أسلم وقالوا : مرة هنا ومرة هنا ، وهذا أشبه ، لأن الشبهة في أمر النسخ أعظم من الشبهة الحاصلة بتعيين القبلة ، وقد وصفها الله بالكبر في قوله : (وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً). وقرأ ابن أبي إسحاق : على عقبيه ، بسكون القاف وتسكين عين فعل ، اسما كان أو فعلا ، لغة تميمية ، وقد تقدّم ذكر ذلك.
(وَإِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللهُ) : اسم كانت مضمر يعود على التولية عن البيت المقدس إلى الكعبة ، قاله ابن عباس ومجاهد وقتادة ، وتحريره من جهة علم العربية أنه عائد على المصدر المفهوم من قوله : (وَما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ) ، أي وإن كانت