وظاهر قوله : (عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ) أنه ليس من شرط الاعتكاف كونه في المساجد ، لأن النهي عن الشيء مقيد بحال لها متعلق لا يدل على أن تلك الحال ، إذا وقعت من المنهيين يكون ذلك المتعلق شرطا في وقوعها ، ونظير ذلك : لا تضرب زيدا وأنت راكب فرسا ولا يلزم من هذا أنك متى ركبت فلا يكون ركوبك إلّا فرسا ، فتبين من هذا أن الاستدلال بهذه الآية على اشتراط المسجد في الاعتكاف ضعيف ، فذكر : المساجد ، إنما هو لأن الاعتكاف غالبا لا يكون إلّا فيها ، لا أن ذلك شرط في الاعتكاف.
والظاهر من قوله : في المساجد ، أنه لا يختص الاعتكاف بمسجد ، بل كل مسجد هو محل للاعتكاف ، وبه قال أبو قلابة ، وابن عيينة ، والشافعي ، وداود الطبري ، وابن المنذر ، وهو أحد قولي مالك ، والقول الآخر : أنه لا اعتكاف إلّا في مسجد يجمع فيه ، وبه قال عبد الله ، وعائشة ، وإبراهيم ، وابن جبير ، وعروة وأبو جعفر.
وقال قوم : إنه لا اعتكاف إلّا في أحد المساجد الثلاثة وهو مروي عن عبد الله وحذيفة.
وقال قوم : لا اعتكاف إلّا في مسجد نبي ، وبه قال ابن المسيب ، وهو موافق لما قبله ، لأنها مساجد الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
وروى الحارث عن عليّ : أنه لا اعتكاف إلّا في المسجد الحرام ، وفي مسجد رسول الله صلىاللهعليهوسلم.
وظاهر الآية يدل على جواز الاعتكاف للرجال ، وأما النساء فمسكوت عنهن. وقال أبو حنيفة : تعتكف في مسجد بيتها لا في غيره ، وقال مالك : تعتكف في مسجد جماعة ولا يعجبه في بيتها. وقال الشافعي : حيث شاءت.
وقرأ مجاهد ، والأعمش : في المسجد ، على الإفراد ، وقال الأعمش : هو المسجد الحرام ، والظاهر أنه للجنس. ويرجح هذا قراءة من جمع فقرأ في المساجد.
وقال بعض الصوفية في قوله : (وَلا تُبَاشِرُوهُنَ) الآية. أخبر الله أن محل القربة مقدّس عن اجتلاب الحظوظ. انتهى.
(تِلْكَ حُدُودُ اللهِ) تلك مبتدأ مخبر عنه بجمع فلا يجوز أن يكون إشارة إلى ما نهى عنه في الاعتكاف ، لأنه شيء واحد ، بل هو إشارة إلى ما تضمنته آية الصيام من أوّلها إلى