الأكل والشرب واللباس ، فعلى هذا الذي نقل من سبب النزول ، فيكون المخاطبون بالإفاضة هنا قريشا وحلفاءها ، ومن دان بدينها ، وهم الحمس. وهذا قول الجمهور. وقيل : الخطاب عام لقريش وغيرها.
والإفاضة المأمور بها هي من عرفات ، إلّا أن : ثم ، على هذا ، تخرج عن أصل موضوعها العربي من أنها تقتضي التراخي في زمان الفعل السابق ، وقد قال : (فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَاذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ ثُمَّ أَفِيضُوا) الإفاضة قد تقدّمت ، وأمروا بالذكر إذا أفاضوا ، فكيف يؤمر بها بعد ذلك بثم التي تقتضي التراخي في الزمان؟ وأجيب عن هذا بوجوه.
أحدها : أن ذلك من الترتيب الذي في الذكر ، لا من الترتيب في الزمان الواقع فيه الأفعال ، وحسن هذا أن الإفاضة السابقة لم يكن مأمورا بها ، إنما كان المأمور به ذكر الله إذا فعلت ، والأمر بالذكر عند فعلها لا يدل على الأمر بها ، ألا ترى أنك تقول : إذا ضربك زيد فاضربه؟ فلا يكون زيدا مأمورا بالضرب ، فكأنه قيل : ثم لتكن تلك الإفاضة من عرفات لا من المزدلفة كما تفعله الحمس ، وزعم بعضهم أن : ثم ، هنا بمعنى الواو ، لا تدل على ترتيب ، كأنه قال : وأفيضوا من حيث أفاض الناس ، فهي لعطف كلام على كلام مقتطع من الأول ، وقد جوّز بعض النحويين أن : ثم ، تأتي بمعنى الواو ، فلا ترتيب. وقد حمل بعض الناس : ثم ، هنا على أصلها من الترتيب بأن جعل في الكلام تقديما وتأخيرا ، فجعل : (ثُمَّ أَفِيضُوا) معطوفا على قوله : (وَاتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ) كأنه قيل : ثم أفيضوا من حيث أفاض الناس ، واستغفروا الله إن الله غفور رحيم ، ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلا من ربكم ، فإذا أفضتم من عرفات ، وعلى هذا تكون هذه الإفاضة المشروط بها ، تلك الإفاضة المأمور بها ، لكن التقديم والتأخير هو مما يختص بالضرورة ، وننزه القرآن عن حمله عليه ، وقد أمكن ذلك بجعل : ثم ، للترتيب في الذكر لا في الفعل الواقع بالنسبة للزمان ، أو بجعل الإفاضة المأمور بها هنا غير الإفاضة المشروط بها ، وتكون هذه الإفاضة من جمع إلى منى ، والمخاطبون بقوله (ثُمَّ أَفِيضُوا) جميع المسلمين ، وقد قال بهذا : الضحاك ، وقوم معه ، ورجحه الطبري ، وهو يقتضيه ظاهر القرآن. وقال الزمخشري فإن قلت : فكيف موقع : ثم؟ قلت : نحو موقعها في قولك : أحسن إلى الناس ثم لا تحسن إلى غير كريم ، يأتي : ثم ، لتفاوت ما بين الإحسان إلى الكريم ، والإحسان إلى غيره وبعد