ذكر بأن ينصبه على محل الكاف ، أو يجره عطفا على ذكر المجرور بالكاف ، أو الذي هو وصف في المعنى للذكر بأن ينصبه بإضمار فعل أي : كونوا أشدّ ، أو للذاكر الذكر ، وبأن ينصبه عطفا على : آباءكم ، أو للذكر الفاعل بأن يجره عطفا على المضاف إليه الذكر ، ولا يخفى ما في هذه الأوجه من الضعف ، فينبغي أن ينزه القرآن عنها.
(فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) قالوا : بين تعالى حال الذاكرين له قبل مبعثه ، وحال المؤمنين بعد مبعثه ، وعلمهم بالثواب والعقاب. والذي يظهر أن هذا تقسيم للمأمورين بالذكر بعد الفراغ من المناسك ، وأنهم ينقسمون في السؤال إلى من يغلب عليه حب الدنيا ، فلا يدعو إلّا بها ، ومنهم من يدعو بصلاح حاله في الدنيا والآخرة ، وإن هذا من الالتفات. ولو جاء على الخطاب لكان : فمنكم من يقول : ومنكم.
وحكمة هذا الالتفات أنهم ما وجهوا بهذا الذي لا ينبغي أن يسلكه عاقل ، وهو الاقتصار على الدنيا ، فأبرزوا في صورة أنهم غير المخاطبين بذكر الله بأن جعلوا في صورة الغائبين ، وهذا من التقسيم الذي هو من جملة ضروب البيان ، وهو تقسيم بديع يحصره المقسم إلى هذين النوعين ، لا على ما يذهب إليه الصوفية من أن ثمّ قسما ثالثا لم يذكر لهم تعالى ، قالوا : وهم الراضون بقضائه ، المستسلمون لامره ، الساكتون عن كل دعاء ، وافتشاء ، ومفعول آتنا الثاني محذوف ، تقديره : ما تريد ، أو : مطلوبنا ، أو ما أشبه.
هذا وجعل في زائدة ، وتكون الدنيا المفعول الثاني قول ساقط ، وكذلك جعل في بمعنى : من ، حتى يكون في موضع المفعول ، وحذف مفعولي آتي ، وأحدهما جائز اختصارا واقتصارا ، لأن هذا باب : أعطى ، وذلك جائز فيه.
(وَما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) تقدّم تفسير هذا في قوله : (وَلَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ) (١) واحتملت هذه الجملة هنا معنيين : أحدهما : الاخبار بأنه لا نصيب له في الآخرة لاقتصاره على الدنيا. والثاني : أن يكون المعنى إخبارا عن الداعي بأنه ما له في الآخرة من طلب نصيب ، فيكون هذا كالتوكيد لاقتصاره على طلب الدنيا ، وجمع في قوله : (رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا) ولو جرى على لفظ من ، لكان : ربّ آتني. وروعي الجمع هنا لكثرة من يرغب في الاقتصار على مطالب الدنيا ونيلها ، ولو أفرد لتوهم أن ذلك قليل.
__________________
(١) سورة البقرة : ٢ / ١٠٢.