عطاء ، وذلك أنه لما أمرهم تعالى بالذكر في أيام معلومات ، وهذه الأيام قد فسرت بما أقله جمع وهي : ثلاثة أيام ، أو بأربعة ، أو بالعشر ، ثم أبيح لهم النفر في ثاني أيام التشريق ، وكان يقتضي الأمر بالذكر في جميع هذه الأيام أن لا تعجيل ، فنفى بقوله : فلا إثم عليه الحرج عن من خفف عنه المقام إلى اليوم الثالث ، فينفر فيه ، وسوّى بينه في الإباحة وعدم الحرج ، وبين من تأخر فعم الأيام الثلاثة بالذكر ، وهذا التقسيم يدل على التخيير بين التعجيل والتأخر ، والتخيير قد يتبع بين الفاضل والأفضل ، فقيل : جاء ومن تأخر فلا إثم عليه ، لأجل مقابلة : فمن تعجل فلا إثم عليه ، فنفى الإثم عنه وإن كان أفضل لذلك ، وقيل : فلا إثم عليه في ترك الرخصة.
وقيل : كان أهل الجاهلية فريقين : منهم من يؤثم المتعجل ، ومنهم من يؤثم المتأخر ، فجاء القرآن برفع الإثم عنهما ، وقيل : إنه عبر بذلك عن المغفرة ، كما روي عن علي ومن معه. وهذا أمر اشترك فيه المتعجل والمتأخر ، وقيل : المعنى : ومن تأخر عن الثالث إلى الرابع ولم ينفر مع عامة الناس فلا إثم عليه ، فكأنه قيل : أيام منى ثلاثة ، فمن نقص عنها فتعجل في اليوم الثاني منها فلا إثم عليه ، ومن زاد عليها فتأخر فلا إثم عليه.
وفي هاتين الجملتين الشرطيتين من علم البديع الطباق في قوله : فمن تعجل ، ومن تأخر ، والطباق ذكر الشيء وضده ، كقوله (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكى) (١) وهو هنا طباق غريب ، لأنه ذكر تعجل مطابق تأخر ، وفي الحقيقة مطابق تعجل تأنى ، ومطابق تأخر تقدم ، فعبر في تعجل بالملزوم عن اللازم ، وعبر في تأخر باللازم عن الملزوم.
وفيها من علم البيان المقابلة اللفظية ، إذ المتأخر أتى بزيادة في العبادة ، فله زيادة في الأجر ، وإنما أتى بقوله : فلا إثم عليه ، مقابلا لقوله : فمن تعجل في يومين فلا إثم عليه ، كقوله : (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ) (٢) وتقدّمت الإشارة إلى هذا (لِمَنِ اتَّقى) قيل : هو متعلق بقوله : واذكروا الله ، أي الذكر لمن اتقى ، وقيل : بانتفاء الإثم أي : يغفر له بشرط اتقائه الله فيما بقي من عمره ، قاله أبو العالية ، وقيل : المعنى ذلك التخيير ونفي الإثم عن المتعجل والمتأخر لأجل الحاج المتقي ، لئلا يختلج في قلبه شيء منهما ، فيحسب أن أحدهما ترهق صاحبه آثام في الإقدام عليه ، لأن ذا التقوى حذر متحرز من كل ما يريبه ، ولأنه هو الحاج على الحقيقة ، قاله الزمخشري ، وقال أيضا : لا يجوز أن يراد ذلك الذي مرّ
__________________
(١) سورة النجم : ٥٣ / ٤٣.
(٢) سورة البقرة : ٢ / ١٩٤.