والذي ينبغي أن يقال : إنّه تعالى لما ذكر (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ) وكان عاما في المنافق الذي يبدي خلاف ما أضمر ، ناسب أن يذكر قسيمه عاما من : يبذل نفسه في طاعة الله تعالى من أي صعب كان ، فكذلك المنافق مدار عن نفسه بالكذب والرياء ، وحلاوة المنطق ، وهذا باذل نفسه لله ولمرضاته.
وتندرج تلك الأقاويل التي في الآيتين تحت عموم هاتين الآيتين ، ويكون ذكر ما ذكر من تعيين من عين إنما هو على نحو من ضرب المثال ، ولا يبعد أن يكون السبب خاصا ، والمراد عموم اللفظ ، ولما طال الفصل هنا بين القسم الأول والقسم الثاني ، أتى في التقسيم الثاني بإظهار المقسم منه ، فقال : (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي) بخلاف قوله : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً) فانه لما قرب ذكر أحد القسمين من القسم ، أضمر في الثاني المقسم.
ومعنى يشري : يبيع ، وهو سائغ في اللسان ، قال تعالى : (وَشَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ) (١) قال الشاعر :
وشريت بردا ليتني |
|
من بعد برد كنت هامة |
ويشري : عبارة عن أن يبذل نفسه في الله ، ومنه تسمى الشراة ، وكأنهم باعوا أنفسهم من الله ، وقال قوم : شرى ، بمعنى : اشترى ، فإن كانت الآية في صهيب فهذا موجود فيه حيث اشترى نفسه بماله ولم يبعها.
وانتصاب : ابتغاء ، على أنه مفعول من أجله ، أي الحامل لهم على بيع أنفسهم ، إنما هو طلب رضى الله تعالى ، وهو مستوف لشروط المفعول من أجله من كونه مصدرا متحد الفاعل والوقت ، وهذه الإضافة ، أعنى : إضافة المفعول من أجله ، هي محضة ، خلافا للجرمي ، والرياشي ، والمبرّد ، وبعض المتأخرين ، فانهم يزعمون أنها إضافة غير محضة ، وهذا مذكور في كتب النحو.
ومرضاة : مصدر بني على التاء : كمدعاة ، والقياس تجريده عنها ، كما تقول : مرمى ومغزى ، وأمال الكسائي : مرضات ، وعن ورش خلاف في إمالة : مرضات ، وقرأنا له
__________________
(١) سورة يوسف : ١٢ / ٢٠.