فيؤول إلى معنى قراءة الجمهور من خفض المسجد الحرام على أحسن التأويلات التي نذكرها ، فنقول : اختلفوا فيما عطف عليه والمسجد ، فقال ابن عطية ، والزمخشري ، وتبعا في ذلك المبرد : هو معطوف على : سبيل الله ، قال ابن عطية : وهذا هو الصحيح ، ورد هذا القول بأنه إذا كان معطوفا على : سبيل الله ، كان متعلقا بقوله : وصدّ إذ التقدير : وصدّ عن سبيل الله وعن المسجد الحرام ، فهو من تمام عمل المصدر ، وقد فصل بينهما بقوله : وكفر به ، ولا يجوز أن يفصل بين الصلة والموصول ، وقيل : معطوف على الشهر الحرام ، وضعف هذا بأن القوم لم يسألوا عن الشهر الحرام ، إذ لم يشكوا في تعظيمه ، وإنما سألوا عن القتال في الشهر الحرام ، لأنه وقع منهم ولم يشعروا بدخوله ، فخافوا من الإثم. وكان المشركون عيروهم بذلك ، انتهى ، ما ضعف به هذا القول ، وعلى هذا التخريج يكون السؤال عن شيئين : أحدهما : عن قتال في الشهر الحرام ، والآخر : عن المسجد الحرام والمعطوف على الشهر الحرام ، والشهر الحرام لم يسأل عنه لذاته ، إنما سئل عن القتال فيه ، فكذلك المعطوف عليه يكون السؤال عن القتال فيه ، فيصير المعنى : يسألونك عن قتال في الشهر الحرام ، وفي المسجد الحرام ، فأجيبوا : بأن القتال في الشهر الحرام كبير ، وصد عن سبيل الله ، وكفر به ، ويكون : وصد عن سبيل الله ، على هذا ، معطوفا على قوله : كبير ، أي : القتال في الشهر الحرام أخبر عنه بأنه إثم كبير ، وبأنه صد عن سبيل الله وكفر به.
ويحتمل أن يكون : وصد ، مبتدأ وخبره محذوف لدلالة خبر : قتال ، عليه ، التقدير : وصد عن سبيل الله وكفر به كبير ، كما تقول : زيد قائم وعمرو ، أي : وعمرو قائم ، وأجيبوا بأن : القتال في المسجد الحرام إخراج أهله منه أكبر عند الله من القتال فيه ، وكونه معطوفا على الشهر الحرام متكلف جدا ، ويبعد عنه نظم القرآن ، والتركيب الفصيح ، ويتعلق كما قيل بفعل محذوف دل عليه المصدر ، تقديره : ويصدون عن المسجد الحرام ، كما قال تعالى : (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ) (١) قال بعضهم : وهذا هو الجيد ، يعني من التخاريج التي يخرج عليه ، والمسجد الحرام وما ذهب إليه غير جيد ، لأن فيه الجر بإضمار حرف الجر ، وهو لا يجوز في مثل هذا إلّا في الضرورة ، نحو قوله :
أشارت كليب بالأكف الأصابع
__________________
(١) سورة الفتح : ٤٨ / ٢٥.