بكثرة الحلف به ، ولذلك ذم من أنزل فيه : (وَلا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ) (١) باشنع المذام ، وجعل الحلاف مقدمتها ، وأن تبروا ، علة للنهي أي : إرادة أن تبروا وتتقوا وتصلحوا لأن الحلاف مجترئ ، على الله ، غير معظم له ، فلا يكون برا متقيا ، ولا يتق به الناس ، فلا يدخلونه في وساطتهم وإصلاح ذات بينهم.
وقيل : المعنى ولا تحلفوا بالله كاذبين ، لتبروا المحلوف لهم ، وتتقوهم وتصلحوا بينهم بالكذب. روي هذا المعنى عن ابن عباس ، فقيد المعلول بالكذب ، وقيد العلة بالناس ، والإصلاح بالكذب ، وهو خلاف الظاهر.
وقال الزمخشري : ويتعلق : أن تبروا ، بالفعل و : بالعرضة ، أي : ولا تجعلوا الله لأجل أيمانكم به عرضة لأن تبروا. انتهى. ولا يصح هذا التقدير ، لأن فيه فصلا بين العامل والمعمول باجنبي ، لأنه علق : لأيمانكم ، بتجعلوا ، وعلق : لأن تبروا بعرضة ، فقد فصل بين : عرضة ، وبين : لأن تبروا بقوله : لأيمانكم ، وهو أجنبي منهما ، لأنه معمول عنده لتجعلوا ، وذلك لا يجوز ، ونظير ما أجازه أن تقول : أمرر وأضرب بزيد هندا ، فهذا لا يجوز ونصوا على انه لا يجوز : جاءني رجل ذو فرس راكب أبلق ، لما فيه من الفصل بالأجنبي.
والذي يظهر لي أن تبروا ، في موضع نصب على إسقاط الخافض ، والعمل فيه قوله : لأيمانكم ، التقدير : لأقسامكم على أن تبروا ، فنهوا عن ابتذال اسم الله تعالى ، وجعله معرضا لأقسامهم على البر والتقوى والإصلاح اللاتي هن أوصاف جميلة ، لما نخاف في ذلك من الحنث ، فكيف إذا كانت أقساما على ما تنافى البر والتقوى والإصلاح؟ وعلى هذا يكون الكلام منتظما واقعا كل لفظ منه مكانه الذي يليق به ، فصار في موضع : أن تبروا ، ثلاثة أقوال الرفع على الابتداء ، والخلاف في تقدير الجر ، والجر على وجهين : عطف البيان والبدل ، والنصب على وجهين : إما على المفعول من أجله على الاختلاف في تقديره ، وإما على أن يكون معمولا : لأيمانكم ، على إسقاط الخافض.
(وَاللهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ) ختم هذه الآية بهاتين الصفتين لأنه تقدم ما يتعلق بهما ، فالذي يتعلق بالسمع الحلف لأنه من المسموعات ، والذي يتعلق بالعلم هو إرادة البر والتقوى والإصلاح إذ هو شيء محله القلب ، فهو من المعلومات ، فجاءت هاتان الصفتان منتظمتين
__________________
(١) سورة القلم : ٦٨ / ١٠.