القشيري : فاذكروني أذكركم ، الذكر استغراق الذاكر في شهود المذكور ، ثم استهلاكه في وجود المذكور حتى لا يبقى منه إلا أثر يذكر ، فيقال : قد كان فلان. قال تعالى : (إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ) (١). وإنما الدنيا حديث حسن فكن حديثا حسنا لمن وعى ، قال الشاعر :
إنما الدنيا محاسنها |
|
طيب ما يبقى من الخبر |
وفي المنتخب ما ملخصه : الذكر يكون باللسان ، وهو : الحمد ، والتسبيح ، والتمجيد ، وقراءة كتب الله ؛ وبالقلب ، وهو : الفكر في الدلائل الدالة على التكاليف ، والأحكام ، والأمر ، والنهي ، والوعد ، والوعيد ، والفكر في الصفات الإلهية ، والفكر في أسرار مخلوقات الله تعالى حتى تصير كل ذرة كالمرآة المجلوة المحاذية لعالم التقديس ، فإذا نظر العبد إليها ، انعكس شعاع بصره منها إلى عالم الجلال ، وبالجوارح ، بأن تكون مستغرقة في الأعمال المأمور بها ، خالية عن الأعمال المنهي عنها. وعلى هذا الوجه ، سمى الله الصلاة ذكرا بقوله : (فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللهِ) (٢). انتهى. وقالوا : الذكر هو تنبيه القلب للمذكور والتيقظ له ، وأطلق على اللسان لدلالته على ذلك. ولما كثر إطلاقه عليه ، صار هو السابق إلى الفهم. فالذكر باللسان سريّ وجهريّ ، والذكر بالقلب دائم ومتحلل ، وبهما أيضا دائم ومتحلل. فباللسان ذكر عامّة المؤمنين ، وهو أدنى مراتب الذكر ، وقد سماه رسول الله صلىاللهعليهوسلم «ذكرا». خرج ابن ماجة أن أعرابيا قال : يا رسول الله ، إن شرائع الإسلام قد كثرت عليّ ، فأنبئني منها بشيء أتشبث به ، قال : «لا يزال لسانك رطبا من ذكر الله» ، وخرج أيضا قال : «يقول الله تعالى أنا مع عبدي إذ هو ذكرني وتحركت بي شفتاه». وسئل أبو عثمان ، فقيل له : نذكر الله ولا نجد في قلوبنا حلاوة ، فقال : احمدوا الله على أن زين جارحة من جوارحكم بطاعته ، وبالقلب هو ذكر العارفين وخواص المؤمنين ، وقد سماه النبي صلىاللهعليهوسلم ذكرا ، ومعناه استقرار الذكر فيه حتى لا يخطر فيه غير المذكور : قال الشاعر :
سواك ببالي لا يخطر |
|
إذا ما نسيتك من أذكر |
وبهما : هو ذكر خواص المؤمنين ، وهذه ثلاث المقامات ، أدومها أفضلها. انتهى.
وقد طال بنا الكلام في هذه الجملة ، وتركنا أشياء مما ذكره الناس ، وهذه التقييدات والتفسيرات التي فسر بها الذكران ، لا يدل اللفظ على شيء منها ، وينبغي أن يحمل ذلك
__________________
(١) سورة الذاريات : ٥١ / ١٦.
(٢) سورة الجمعة : ٦٢ / ٩.