وأجاز أبو علي : في : ما آتيتم ، أن تكون : ما ، مصدرية أي : إذا سلمتم الإتيان ، والمعنى مع القصر ، وكون : ما ، بمعنى الذي ، أن يكون الذي ما آتيتم نقده وإعطاءه ، فحذف المضاف وأقيم الضمير مقامه ، فكان التقدير : ما آتيتموه ، ثم حذف الضمير من الصلة ، وإذا كانت مصدرية استغنى الكلام عن هذا التقدير ، وروى شيبان عن عاصم : ما أوتيتم مبنيا للمفعول أي : ما آتاكم الله وأقدركم عليه من الأجرة ، ونحوها ، قال تعالى : (وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ) (١) ويتعلق : بالمعروف ، ب : سلمتم ، أي : بالقول الجميل الذي تطيب النفس به ، ويعين على تحسين نشأة الصبي. وقيل : تتعلق : بآتيتم.
قالوا : وفي هذه الآية دليل على أن للآباء أن يستأجروا لأولادهم مراضع إذا اتفقوا مع الأمهات على ذلك ، وهذه كانت سنة جاهلية ، كانوا يتخذون المراضع لأولادهم ويفرغون الأمهات للاستمتاع بهن ، والاستصلاح لأبدانهن ، ولاستعجال الولد بحصول الحمل ، فأقرهم الشرع على ذلك لما في ذلك من المصلحة ورفع المشقة عنهم بقطع ما ألفوه ، وجعل الأجرة على الأب بقوله : (إِذا سَلَّمْتُمْ).
و (اتَّقُوا اللهَ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ) لما تقدّم أمر ونهي ، خرج على تقدير أمر بتقوى الله تعالى ، ولما كان كثير من أحكام هذه الآية متعلقا بأمر الأطفال الذين لا قدرة لهم ولا منعة مما يفعله بهم ، حذر وهدّد بقوله : (وَاعْلَمُوا) وأتى بالصفة التي هي : بصير ، مبالغة في الإحاطة بما يفعلونه معهم والاطلاع عليه ، كما قال تعالى : (وَلِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي) (٢) في حق موسى على نبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام ، إذ كان طفلا.
قالوا : وفي الآية ضروب من البيان والبديع ، منها : تلوين الخطاب ، ومعدوله في : (وَالْوالِداتُ يُرْضِعْنَ) فإنه خبر معناه الآمر على قول الأكثر ، والتأكيد : بكاملين ، والعدل عن رزق الأولاد إلى رزق أمهاتهنّ ، لأنهنّ سبب توصل ذلك. والإيجاز في : (وَعَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ) وتلوين الخطاب : في (وَإِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ) فإنه خطاب للآباء والأمهات ثم قال : (إِذا سَلَّمْتُمْ) وهو خطاب للآباء خاصة ، والحذف في : (أَنْ تَسْتَرْضِعُوا) التقدير : مراضع للأولاد ، وفي قوله : (إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ) انتهى.
وقد تضمنت هذه الآيات الكريمة أمر الله تعالى الأزواج إذا طلقوا نساءهم فيقاربوا
__________________
(١) سورة الحديد : ٥٧ / ٧.
(٢) سورة طه : ٢٠ / ٣٩.