وما لنا غير مقاتلين ، فيكون مثل قوله تعالى : (ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ) (١) (ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً) (٢) (وَما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللهِ) (٣) وكقول العرب : ما لك قائما؟ وقال تعالى : (فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ) (٤) وذهب قوم منهم ابن جرير إلى حذف الواو من : أن لا نقاتل ، والتقدير : وما لنا ولأن لا نقاتل؟ قال : كما تقول : إياك أن تتكلم ، بمعنى إياك وأن تتكلم ، وهذا ومذهب أبي الحسن ليسا بشيء ، لأن الزيادة والحذف على خلاف الأصل ، ولا نذهب إليهما إلّا لضرورة ، ولا ضرورة تدعو هنا إلى ذلك مع صحة المعنى في عدم الزيادة والحذف ، وأما : إياك أن تتكلم ، فليس على حذف حرف العطف ، بل : إياك ، مضمن معنى احذر. فأن تتكلم في موضع نصب كأنه قيل : احذر التكلم ، وقد أخرجنا جملة حالية : أنكروا ترك القتال ، وقد التبسوا بهذه الحال من إخراجهم من ديارهم وأبنائهم ، والقائل هذا لم يخرج ، لكنه أخرج مثله ، فكان ذلك إخراجا له ، ويمكن حمله على الظاهر ، لأن كثيرا منهم استولي على بلادهم ، وأسر أبناؤهم ، فارتحلوا إلى غير بلادهم التي كان منشأهم بها ، كما مر في قصتهم.
وقرأ عبيد بن عمير : وقد أخرجنا ، أي العدوّ ، والمعنى. في : وأبنائنا ، أي : من بين أبنائنا ، وقيل : هو على القلب أي : وأخرج منا أبناؤنا ، ويحتمل أن يكون الفاعل : بأخرجنا ، على قراءة عبيد المذكور ضميرا يعود على الله ، أي : وقد أخرجنا الله بعصياننا وذنوبنا ، فنحن نتوب ونقاتل في سبيله ليردنا إلى أوطاننا ، ويجمع بيننا وبين أبنائنا ، كما تقول : ما لي لا أطيع الله وقد عاقبني على معصيته؟ فينبغي أن أطيعه حتى لا يعاقبني ، قال القشيري : أظهروا التجلد والتصلب في القتال ذبا عن أموالهم ومنازلهم حيث (قالُوا وَما لَنا أَلَّا نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَأَبْنائِنا) فلذلك لم يتم قصدهم ، لأنه لم يخلص لحق الله عزمهم ، ولو أنهم قالوا : وما لنا أن لا نقاتل في سبيل الله ، لأنه قد أمرنا ، وأوجب علينا ، لعلهم وفقوا لإتمام ما قصدوا.
(فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلاً مِنْهُمْ) هذا شأن المترف المنعم ، متى كان متلبسا بالنعمة قوي عزمه وأنف ، فإذا ابتلي بشيء من الخطوب ركع وذلّ.
التولي : حقيقة هو عند المباشرة للحرب ، ومعناه هنا : صرف عزائمهم عن ما سألوه
__________________
(١) سورة يوسف : ١٢ / ١١.
(٢) سورة نوح : ٧١ / ١٣.
(٣) سورة الحديد : ٥٧ / ٨.
(٤) سورة المدثر : ٧٤ / ٤٩.