وأما القول الثاني : وهو أنه ليس انتقالا من دليل إلى دليل ، بل الدليل واحد في الموضعين ، فهذا قول المحققين ، قالوا : وهو إنا نرى حدوث أشياء لا يقدر أحد على إحداثها ، فلا بد من قادر يتولى إحداثها وهو الله تعالى ولها أمثلة. منها : الإحياء والإماتة. ومنها : السحاب والرعد والبرق. ومنها : حركات الأفلاك والكواكب. والمستدل لا يجوز له أن ينتقل من دليل إلى دليل ، فكان ما فعله إبراهيم عليهالسلام من باب ما يكون الدليل واحدا لا أنه يقع الانتقال عند إيضاحه من مثال إلى مثال آخر ، وليس من باب ما يقع الانتقال فيه من دليل إلى دليل آخر ، ولما كان إبراهيم في المقام الأول الذي سأله الكافر عن ربه حين ادّعى الكافر الربوبية ، (قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ) فلما انتقل إلى دليل أو مثال أوضح وأقطع للخصم ، عدل إلى الاسم الشائع عند العالم كلهم فقال : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ) قرر بذلك بأن ربه الذي يحيي ويميت هو الذي أوجدك وغيرك أيها الكافر ، ولم يقل : فإن ربي يأتي بالشمس ، ليبين أن آله العالم كلهم هو ربه الذي يعبدونه ، ولأن العالم يسلمون أنه لا يأتي بها من المشرق إلّا إلههم.
ومجيء الفاء في : فإن ، يدل على جملة محذوفة قبلها ، إذ لو كانت هي المحكية فقط لم تدخل الفاء وكأن التركيب قال إبراهيم : إن الله يأتي بالشمس ، وتقدير الجملة ، والله أعلم ؛ قال إبراهيم إن زعمت ذلك أو موهت بذلك ، فإن الله يأتي بالشمس من المشرق ، و : الباء ، في بالشمس للتعدية ، تقول : أتت الشمس ، وأتى بها الله ، أي أحياها ، و : من ، لابتداء الغاية.
(فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ) قراءة الجمهور مبنيا لما لم يسم فاعله ، والفاعل المحذوف إبراهيم إذ هو المناظر له ، فلما أتى بالحجة الدامغة بهته بذلك وحيره وغلبه ، ويحتمل أن يكون الفاعل المحذوف المصدر المفهوم من : قال ، أي : فحيره قول إبراهيم وبهته.
وقرأ ابن السميفع : فبهت ، بفتح الباء والهاء ، والظاهر أنه متعدّ كقراءة الجمهور فبهت مبنيا للمفعول أي فبهت إبراهيم الذي كفر وقيل : المعنى ، فبهت الكافر إبراهيم ، أي : سب إبراهيم حين انقطع ولم تكن له حيلة ، ويحتمل أن يكون لازما ويكون الذي كفر فاعلا ، والمعنى : : بهت أو أتى بالبهتان.
وقرأ أبو حيوة : فبهت ، بفتح الباء وضم الهاء. وقرىء فيما حكاه الأخفش : فبهت بكسر الهاء.