نفسه ويرمي به البريء. والبهتان : الكذب الفاحش. وجعل الرمي بالخطيئة وبالإثم مرتبة واحدة في كون ذلك إثما مبينا : لأنّ رمي البريء بالجريمة في ذاته كبيرة لما فيه من الاعتداء على حقّ الغير. ودلّ على عظم هذا البهتان بقوله : (احْتَمَلَ) تمثيلا لحال فاعله بحال عناء الحامل ثقلا. والمبين الذي يدلّ كلّ أحد على أنّه إثم ، أي إثما ظاهرا لا شبهة في كونه إثما.
وقوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ) عطف على (وَلا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً) [النساء : ١٠٥].
والمراد بالفضل والرحمة هنا نعمة إنزال الكتاب تفصيلا لوجوه الحقّ في الحكم وعصمته من الوقوع في الخطأ فيه. وظاهر الآية أنّ همّ طائفة من الذين يختانون أنفسهم بأن يضلّون الرسول غير واقع من أصله فضلا عن أن يضلّوه بالفعل. ومعنى ذلك أنّ علمهم بأمانته يزعهم عن محاولة ترويج الباطل عليه إذ قد اشتهر بين الناس ، مؤمنهم وكافرهم ، أنّ محمداصلىاللهعليهوسلم أمين فلا يسعهم إلّا حكاية الصدق عنده ، وأنّ بني ظفر لما اشتكوا إليه من صنيع قتادة بن النعمان وعمّه كانوا يظنّون أنّ أصحابهم بني أبيرق على الحقّ ، أو أنّ بني أبيرق لمّا شكوا إلى رسول الله بما صنعه قتادة كانوا موجسين خيفة أن يطلع الله رسوله على جليّة الأمر ، فكان ما حاولوه من تضليل الرسول طمعا لا همّا ، لأنّ الهمّ هو العزم على الفعل والثقة به ، وإنّما كان انتفاء همّهم تضليله فضلا ورحمة ، لدلالته على وقاره في نفوس الناس ، وذلك فضل عظيم.
وقيل في تفسير هذا الانتفاء : إنّ المراد انتفاء أثره ، أي لو لا فضل الله لضللت بهمّهم أن يضلّوك ، ولكن الله عصمك عن الضلال ، فيكون كناية. وفي هذا التفسير بعد من جانب نظم الكلام ومن جانب المعنى.
ومعنى : (وَما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ) أنّهم لو همّوا بذلك لكان الضلال لا حقا بهم دونك ، أي يكونون قد حاولوا ترويج الباطل واستغفال الرسول ، فحقّ عليهم الضلال بذلك ، ثم لا يجدونك مصغيا لضلالهم ، و (مِنْ) زائدة لتأكيد النفي. و (شَيْءٍ) أصله النّصب على أنّه مفعول مطلق لقوله (يَضُرُّونَكَ) أي شيئا من الضرّ ، وجرّ لأجل حرف الجرّ الزائد.
وجملة : (وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَالْحِكْمَةَ) عطف على (وَما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْءٍ). وموقعها لزيادة تقرير معنى قوله : (وَلَوْ لا فَضْلُ اللهِ عَلَيْكَ وَرَحْمَتُهُ) ولذلك ختمها