أمّا القرآن فقد نزل على حسب الاحتياجات والمتطلبات التربوية للمجتمع في ظروف وملابسات مختلفة تماماً طيلة ٢٣ عاماً ، فهو الكتاب الذي تحدث عن مواضيع متنوعة ، وهو ليس كسائر الكتب التي تواكب أحد البحوث الاجتماعية أو السياسية أو الفلسفية أو الحقوقية أو التاريخية فحسب ، بل أحياناً يتحدث عن التوحيد وأسرار الخلقة ، وأحياناً عن الأحكام والقوانين ، والآداب والسنن ، وتارة يتحدث عن الامم السابقة وقصصهم المثيرة ، وتارة اخرى عن المواعظ والنصائح ، والعبادات ، والعلاقة القائمة بين الله تعالى وعباده ، وعلى ضوء قول الدكتور «غوستاولبون» : إنّ الكتاب السماوي للمسلمين ـ وهو القرآن ـ لا يقتصر على التعاليم والدساتير الدينية فحسب ، بل تندرج فيه الدساتير الاجتماعية والسياسية للمسلمين أيضاً.
إنَّ مثل هذا الكتاب المشتمل على هذه الخصوصيات لا يمكن أن يخلو من التضاد والتناقض واختلاف الأقوال الكثيرة عادة ، لكن عندما نرى الانسجام القائم بين آياته كلها ، وخلوها من كل ألوان التضاد والاختلاف والتهافت يمكننا حينئذٍ الحدس بأنّ هذا الكتاب ليس وليد أفكار الناس ، بل هو صادر من قبل الباري تعالى ، كما بيّن القرآن نفسه هذه الحقيقة في الآية السابقة.
وبعبارة اخرى ـ إنّ كافة الموجودات المادية ـ ومن ضمنها الإنسان الذي له صبغة مادية بأحد اللحاظات ـ في تغّير وتحول دائم ومطرد وتنقل هذا التغيّر إلى الموجودات الدائرة حوله ، إنّ قابلية التأثر والتأثير جزء لا يتجزأ من طبيعة الإنسان ، وطبيعة أي موجود مادي آخر ، ولهذا السبب تتبدل أفكار الإنسان وآراؤه مع تقدم الزمن ، علاوة على أنّ ازدياد تجارب الإنسان ورقي مستوى إبداعه في المسائل المختلفة يساهم في تصعيد هذا التغير ، وهذه هي التي تؤدّي حتما إلى التغير والتضاد واللاإنسجام في المذكرات التي تعود إلى سنين متمادية لأحد الأشخاص فيما لو جمعت ونسقت بعد ذلك ، والله القادر المتعال وحده هو الذي يكون بمعزل عن هذه التغيرات وقابلية التأثر والتأثير ، فليس في كلماته تضاد أبداً وهذه هي إحدى الطرق في معرفة كلام الحق وتمييزه عن كلام غيره ، حتى أنّ البعض من