ثم المسألة فى الحجر :
قال أبو حنيفة ـ رضى الله تعالى عنه ـ : الحجر لا يمنع عقوده.
وقال محمد بن الحسن : لا يجوز عقوده ، ولكن الولى هو الذى يتولى ذلك ؛ استدلالا بظاهر قوله : (فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ) ، فإنما جعل الإملاء إلى الولى ، لا إليه. ولو كان يجوز إملاؤه لكان لا معنى لجعل ذلك إلى غيره ؛ دل أنه لا يجوز.
وأما أبو حنيفة ـ رضى الله تعالى عنه ـ فإنه ذهب إلى أنه يجوز بقوله تعالى : (إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ) ، أجاز تداينه ؛ فدل أن الحجر لا يمنع العقد عليه ولا تداينه ، ولأن السفيه لم يستفد الإذن من السلطان ؛ إنما استفاده من الله تعالى ، ولا يجوز حجر من لم يستفد الإذن منه.
وقوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ) :
لم يجعل الإشهاد شرطا فى جواز البيع ، ولكنه معطوف على قوله : (فَاكْتُبُوهُ). أمر عزوجل بالإشهاد فى البيع والتداين ؛ للمعنى الذى ذكرنا : أن ترك الإشهاد والكتابة يحمله على الإنكار وجحود الحق ، فإذا كان هنالك شهود وكتاب يمتنع من الإنكار ؛ لخوف ظهور الكذب. ولم يصر شرطا فى جواز التداين ؛ لأن الإشهاد إنما ذكر بعد المداينة والمبايعة. وكذلك الكتابة فهو لما ذكرنا : أن الإنسان من طبعه النسيان والسهو ؛ فأمر بالاستشهاد والكتابة لئلا ينسى ، أو يحمله ترك الإشهاد والكتابة على الإنكار.
وأما الأمر بالإشهاد فى النكاح ـ فى عقد النكاح نفسه ـ دليله قوله ـ عليهالسلام ـ : «لا نكاح إلا بشهود» ؛ لذلك صار شرطا فى عقد النكاح ، ولم يصر شرطا فى المبايعة.
ووجه آخر : وهو أن الشهادة فى النكاح تدفع تهمة الزنى عنهما ، وقد يحوج إليه فى أول أحواله. والحاجة إلى الشهادة فى البيع إلى ما يتعقب فيه من توهم وقوع التنازع ؛ إذ له بذل ملكه للآخر من غير عقد بيع ، وليس لها بذل فرجها له من غير عقد النكاح ؛ لذلك صار الإشهاد شرطا فى جواز النكاح ، ولم يكن شرطا فى البيع. والله أعلم.
وقوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتانِ) :
فى الآية دلالة أن من قضى بالشاهد واليمين قضى بخلاف ظاهر الكتاب ، وهو أيضا خلاف السنة ؛ لأن قوله تعالى : (وَاسْتَشْهِدُوا) ، ليس هو الإشهاد ، إنما هو الإحضار للشهادة ؛ إذ العجز لا يقع فى الإشهاد ، إنما يقع عند الاستحضار ، ولو كان بيمينه غنية لم يأمر المرأتين هتك سترهما ؛ ولأن الآية ذكرت حق القضاء فى البياعات (١) الواقعة
__________________
(١) فى ط : المباهات.