وأمّا عندنا (١) : فهي على وجهين :
أحدهما : استطاعة الأسباب والأحوال.
والثاني : استطاعة الأفعال.
فأمّا استطاعة الأحوال والأسباب : فيجوز تقدمها ، من نحو : الزاد ، والراحلة ، والجوارح السليمة.
وأمّا استطاعة الأفعال فإنها لا تكون إلا مع الفعل ؛ لأنها استطاعة الفعل وسببه ؛ فلا تكون إلا معه ، والوقت في الحج لفعل الحج لا للإيجاب ؛ لأنه لو كان للإيجاب لكان له ألا يخرج ، ولا يأتي ذلك المكان فيجب عليه الحج ؛ ولأنه لو لم يلزمه إلا بالوقت ، ثم لا يتمكن فعله به دون المكان فيجئ ـ لا يلزمه إلا بحضور ذلك ، فلا يلزمه الخروج أبدا ؛ إذ (٢) الحج غير لازم [إلا بالوقت](٣) ، ولأنه ليس على العبد أن يتكلف في اكتساب إيجاب العبادات ، وعليه أن يجهد في أداء الواجب عليه.
ثم الأوقات على أقسام ثلاثة :
وقت الإيجاب والأداء جميعا نحو : الصلاة ، والصيام ، ونحوهما. ووقت الإيجاب ، نحو : الزكاة. ووقت الأداء ـ وهو الحج ـ إنما وجوبه بالزاد والراحلة ، وأمّا الوقت : فهو للأداء خاصّة ، فإذا كان في أقصى بلاد المسلمين فهو لم يعط قدرة فعل الحج ؛ لأنه لا يقدر على فعله إذا كان فيما ذكر (٤) ؛ دل أن قدرة الفعل لا تتقدم الفعل ، وقدرة الأحوال تتقدم لما ذكرناه ، والله أعلم.
وقوله : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ).
في الآية دلالة أن الله ـ عزوجل ـ إذا أمر عباده بأمر ليس يأمره لحاجة نفسه ، ويأمر لحاجة العبد ؛ لأنه غنى بذاته ، لا حاجة تمسّه ، وأمّا الأمر فيما بين الخلق : فإنما هو لحاجة بعضهم لبعض : إمّا جر منفعة ، أو دفع مكروه ، فذلك معنى قوله : (وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ).
ثم اختلف في قوله : (وَمَنْ كَفَرَ) : عن ابن عباس ـ رضي الله عنه ـ (وَمَنْ كَفَرَ) قال : من زعم أنه لم ينزل (٥).
__________________
(١) ينظر : الهداية (١ / ١٦٢).
(٢) في ب : إذا كان.
(٣) ما بين المعقوفين سقط من ب.
(٤) في ب : ذكرنا.
(٥) أخرجه ابن أبي حاتم (٢ / ٤٢٨) برقم (١٠٣٥) من طريق عاصم ، وابن جرير (٧ / ٤٧) برقم (٧٥٠٠) من طريق مقسم كلاهما عن ابن عباس.