ثم معنى قوله ـ تعالى ـ : (وَأَقْرِضُوا اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [المزمل : ٢٠] ، و (مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللهَ قَرْضاً حَسَناً) [البقرة : ٢٤٥] ـ يحتمل وجهين :
أحدهما : لئلا يمنوا على الفقراء بما يتصدقون عليهم ؛ إذ يعلمون أنه ليس بفقير ولا محتاج ليستقرض لفقره ولحاجته ، وكل من أقرض آخر لا لحاجة له في ذلك القرض ولا فقر ؛ ولكن ليكون ماله عنده محفوظا في الشاهد ـ فإنه لا يمنّ المقرض عليه ؛ بل تكون المنة للذى عنده القرض على المقرض ؛ حيث يحفظ ماله في السفاتج (١) ؛ فعلى ذلك المال الذي يقرضون ويتصدقون على الفقراء ، يكون محفوظا عند الله ليوم حاجتهم إليه ؛ فلا منة تكون على الفقير ، والله أعلم.
والثاني : إنباء عن جوده (٢) وكرمه ؛ لأن العبد وما في يده له ، فلو أراد أن يأخذ جميع ما في يده لكان له ذلك ، ثم يطلب منه ببدل يضاعف على ذلك.
والثالث : أن المولى في الشاهد إذا طلب [من عبده](٣) القرض ؛ يكون في ذلك شرف للعبد وعظم ؛ فعلى ذلك الله ـ تعالى ـ إذا طلب من عبده القرض ، على علم منه في أنه غني بذاته ، لا يجب أن يبخل عليه ، وفي ذلك شرفه وعظمه ، والله أعلم.
وقوله : (لَقَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللهَ فَقِيرٌ) ، قال أهل التفسير : قالت اليهود ، وذلك تنبيه بصنيعهم وشدة سفههم ؛ حتى زعموا أن يد الله مغلولة ، لكن ليس في الآية بيان القائلين ، ولا في النسبة إلى أحد تقع سوى خوف الكذب ؛ لو لم يكن ذلك منه ، لكنهم قالوه ، والأغلب على مثله أن يكونوا قالوه سرّا ، يكون في إظهاره آية الرسالة ، أو كانت الأوائل يقولون فيكون في ذلك ذلك ؛ إذ لا يحتمل أن يصبر لمثله : يقال بحضرة الصحابة ـ رضوان الله عليهم أجمعين ـ إلا أن يكون في وقت أمروا بالكف ؛ فيكون في ذلك بيان قدر طاعتهم لله ، مع عظيم ما سمعوا من القول ، وجملة ذلك أن في ذكر ذلك دعاء إلى الصبر على أذاهم وسوء قولهم ؛ إذ هم مع تقلبهم في نعم الله ـ تعالى ـ وعلمهم بأنهم لم ينالوا خيرا إلا بالله ـ تعالى ـ اجترءوا عليه بمثل هذا القول ، وبلغ عتوّهم هذا ،
__________________
(١) السفاتج : جمع السفتجة : بضم السن وفتحها وفتح التاء ـ فارسى معرب ، وهي أن يعطي مالا لآخر ، وللآخر مال في بلد المعطى ، فيوفيه إياه ثمّ ، فيستفيد أمن الطريق ، وهي في الاصطلاح ـ قال العلامة ابن عابدين : إقراض لسقوط خطر الطريق.
وفي حاشية الدسوقي على الشرح الكبير : هي الكتاب الذي يرسله المقترض لوكيله ببلد ؛ ليدفع للمقرض نظيره ما أخذه منه ببلده ، وهي المسماة بالبوليصة ، أي : الكمبيالة. ينظر : القاموس المحيط ص (١٧٧) (سفتج) ، حاشية ابن عابدين (٤ / ٢٩٥) ، حاشية الدسوقي (٣ / ٢٢٥).
(٢) في ب : وجوده.
(٣) ما بين المعقوفين سقط من ب.