والله ـ جل ثناؤه ـ مع قدرته وسلطانه يحلم (١) عنهم ليوم وعدهم فيه الجزاء ؛ فمن ليس منه إليهم نعمة ولا تقدم عليهم منه كثير منة ـ أحق بالصبر لأذاهم ، وإعراض عن مكافأتهم ؛ وعلى ذلك قوله ـ تعالى ـ : (قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللهِ ..). الآية [الجاثية : ١٤] ، وقال [الله تعالى لرسوله](٢) صلىاللهعليهوسلم : (فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) [المائدة : ١٣](٣).
وقوله ـ عزوجل ـ : (سَنَكْتُبُ ما قالُوا) :
قيل : سنجزيهم جزاء ما قالوا (٤) ، وقيل : سنحفظ ما قالوا ، وسنثبت ، وسألزم (٥) ، كقوله ـ عزوجل ـ : (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) [الإسراء : ١٣] ، والله أعلم.
وقوله : (وَقَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ) :
قد ذكرنا هذا فيما تقدم أنه يحتمل : إذ قتل أوائلهم ؛ فأضيف إليهم لرضائهم بفعلهم ؛ كقوله ـ تعالى ـ (مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً) [المائدة : ٣٢] ؛ لرضاه بقتله (٦).
__________________
(١) في ب : يحكم.
(٢) بدل ما بين المعقوفين في ب : لرسول الله.
(٣) قال الرازي : واعلم أنه ليس في الآية تعيين هذا القائل ، إلا أن العلماء نسبوا هذا القول إلى اليهود واحتجوا عليه بوجوه :
أحدها : أن الله ـ تعالى ـ حكى عنهم أنهم قالوا : إن يد الله مغلولة ، يعنون أنه بخيل بالعطاء ، وذلك الجهل مناسب للجهل المذكور في الآية.
وثانيها : ما روي في الخبر أنهم تكلموا بذلك على ما رويناه في قصة أبي بكر.
وثالثها : أن القول بالتشبيه غالب على اليهود ، ومن قال بالتشبيه لا يمكنه إثبات كونه ـ تعالى ـ قادرا على كل المقدورات ، وإذا عجز عن إثبات هذا الأصل عجز عن بيان أنه غني وليس بفقير.
والوجه الرابع : أن موسى ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما طلب منهم أن يوافقوه في مجاهدة الأعداء قالوا : (فَاذْهَبْ أَنْتَ وَرَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ)[المائدة : ٢٤] فموسى ـ عليهالسلام ـ لما طلب منهم الجهاد بالنفس قالوا : لما كان الإله قادرا فأي حاجة به إلى جهادنا؟! وكذا هاهنا ؛ فإن محمدا ـ عليه الصلاة والسلام ـ لما طلب منهم الجهاد ببذل المال قالوا : لما كان الإله غنيّا ، فأي حاجة به إلى أموالنا؟! فكان إسنادهم هذه الشبهة إلى اليهود لائقا من هذا الوجه. وإن كان لا يمتنع أن يكون غيرهم من الجهال قد قال ذلك ، والأظهر أنهم قالوه على سبيل الطعن في نبوة محمد صلىاللهعليهوسلم ، يعني : لو صدق محمد في أن الإله يطلب المال من عبيده لكان فقيرا ، ولما كان ذلك محالا ثبت أنه كاذب في هذا الإخبار ، أو ذكروه على سبيل الاستهزاء والسخرية. فأما أن يقول العاقل مثل هذا الكلام عن اعتقاد فهو بعيد.
ينظر : مفاتيح الغيب (٩ / ٩٥ ـ ٩٦).
(٤) ينظر : البحر المحيط لأبي حيان ٣ / ١٣٦.
(٥) ينظر : السابق.
(٦) ينظر : ابن جرير (٧ / ٤٤٦) ، والبحر المحيط لأبي حيان (٣ / ١٣٦) ، والسيوطي في الدر (٢ / ١٨٧) ، ـ