ثم يقال للشافعى ـ رحمهالله تعالى ـ : إذا جاز أن تجعل المرأة بمنزلة المحصر من غير أن تخاف عدوّا ، لكنها لما منعها من له أن يمنعها جعلتها محصرة ، فهلا جعلت المريض مثلها ، وإن كان النص فى القرآن جاء فى المحصر من العدو على زعمك؟
فقال : لأن المرأة حبسها من له أن يحبسها ، فهى أشد حالا ممن حبسه عدو ، وليس له أن يحبسه.
فيقال له : المريض أمرضه من له أن يمرضه فاجعله أشد حالا من الذى حبسه عدو وليس له أن يحبسه ، أو فرق بين المرأة والمريض ، فقال : بل بينهما فرق.
وذلك أن الخائف بعدو يخاف القتل على نفسه ، وقد أباح الله للخائف فى القتال أن يتحيز إلى فئة ، فينتقل بذلك من الخوف إلى الأمن.
قيل له : كما رخص للخائف فى ذلك فقد رخص للمريض ألا يحضر القتال ؛ فالرخصة له أكثر من الرخصة للخائف.
فإن قال : إن المريض لا يبرأ بالقعود ، والخائف يأمن.
قيل له : إن الرخص التى جعلت للأعذار لا تجعل لترفعها (١) ، ولكن الرخصة لتوفّيه المشقة. فيقال له أيضا : قد جعلت المرأة محصرة إذا منعها زوجها وهى لا تخاف القتل على نفسها. فبطلت علته وانتقضت.
فإن قال : إنكم لم تجعلوا من ضل الطريق محصرا وهو ممنوع من المضى على حجه ، فما الفرق بينه وبين المريض؟
فيقال : لو جعلنا الضال عن الطريق محصرا ، لم يجز له أن يحل من إحرامه إلا بدم يوجهه إلى الحرم فيذبح عنه.
وإذا وجد من يذهب إلى الحرم فيذبح هديه ، فليس بضال ؛ لأنه قد وجد دليلا يدله على طريقه ؛ لذلك افترقا.
وبعد ، فإن المرض أحق أن يكون عذرا فى ذلك من العدو وغيره ؛ لأنه يقاتل العدو والسباع فيدفع عن نفسه الإحصار ، والمرض لا سبيل له إلى دفعه. دل أنه أحق أن يجعل عذرا.
وقال بعضهم : يكون محصرا من الحج ، ولا يكون من العمرة ؛ لأن الحج مما يحتمل الفوت ، والعمرة لا.
وأما عندنا : فإنه يكون محصرا منهما جميعا ؛ لأن الله عزوجل ذكر الإحصار على إثر
__________________
(١) فى ط : لترخصها.