للانقطاع ؛ على ذلك الأوّل ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) ظاهر هذا خرج على التخيير ، لكن المراد منه يخرج على حتم المواعظ ، وتأكيد الوعيد ، وتغليظه ، وكذلك قوله : (اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ) [فصلت : ٤٠] ، ظاهره على التخيير [لكن الحكماء](١) لم يفهموا منه على ما خرج ظاهره ، لكن فهموا منه تأكيد الوعيد وحتم الوعظ ، وهكذا المعروف في الشاهد أن إنسانا لو أمر آخر بأمره ووعظه مرارا فلم ينجع فيه ، يقول له : إن شئت فافعل ، وإن شئت لم تفعل على ما لو فعلت ، أو لم تفعل فإنما ضرر ذلك عليك إن تركته ، ونفعه يرجع إليك لو فعلت ؛ فعلى ذلك قوله : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) فلا ضرر علينا في ترككم الإيمان به ، ولا يرجع نفعه إلينا لو آمنتم به ، إنما نفعه لكم وضرره عليكم إن شئتم فعلتم وإن شئتم لم تفعلوا ، فهو كقوله : (إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها) [الإسراء : ٧] ، وكقوله : (مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ ...) الآية [فصلت : ٤٦] ، ونحو ذلك مما يخبر ؛ إذ كل من عمل خيرا فلنفسه عمل ، ومن عمل شرّا فعلى نفسه ضرر ذلك ؛ فهذا ينقض على أصحاب الظواهر ، حيث قالوا : يفهم من الخطاب ظاهره لا يتعدى عن ظاهره ، حيث لم يجب أن يفهم من قوله : (قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا) التخيير ، لكن فهموا الوعيد الوكيد الغليظ ، وحتم المواعظ.
فإن قيل : ما الحكمة في لزوم الأمر وافتراضه ، إذا كان ما يأمرنا وينهانا لمنافع أنفسنا ولضرر على أنفسنا ، ومن لم يعمل في الشاهد لنفسه ، ولا سعى لنفع نفسه ، فلا لائمة عليه ، ولا مؤاخذة.
قيل : في الحكمة أن يفرض علينا السعي في فكاك أنفسنا ، ودفع الهلاك عن أنفسنا ، وفي أمره إيانا أمر بالسعي في فكاك أنفسنا ، ودفع الهلاك عنها ، وحاصل أمره ونهيه يكون المنفعة لنا لا له ، وكذلك الضرر ، وعلى ذلك يخرج قوله : (وَما ظَلَمْناهُمْ ...) الآية [هود : ١٠١] ، وعلى ذلك يخرج دعاء آدم وغيره : (رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا ...) الآية [الأعراف : ٢٣].
وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً).
وهذا أيضا ينقض على أصحاب الظواهر ؛ لأنه لا كل من أوتي العلم منهم يخرّ للأذقان على ما خرج ظاهره ، فدلّ أن الاعتقاد ليس بالظاهر على ما قرع السمع ، ولكن على ما توجبه الحكمة.
ثم قوله : (إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ) أي : إن الذين أوتوا منفعة العلم يخرّون للأذقان سجدا.
__________________
(١) سقط في أ.