أحدهما : على التقديم والتأخير على ما قاله أهل التأويل ، أي : أنزل على عبده الكتاب قيما ولم يجعله عوجا.
والثاني : على زيادة (بل) كأنه قال : (أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجا بل جعله قيما) ؛ على أحد هذين الوجهين يخرج والله أعلم.
ثم قوله : (وَلَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً. قَيِّماً) إذا لم يكن عوجا كان قيما ، وإذا كان قيما كان غير عوج ، في كل واحد من الحرفين معنى الآخر ، إلا أن من عادة العرب تكرار الكلام وإعادته على التأكيد ، كقوله : (مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ) [النساء : ٢٥] وإذا كن مسافحات لم يكن محصنات ، حرفان مؤديان معنى واحدا ، إلا أنه كرّر ، لما ذكرنا [أن] من عادة العرب التكرار ، وكذلك ما ذكر : (لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً) البأس : هو الشديد ، والشديد هو البأس ، هما واحد ، فعلى ذلك الأول.
ثم اختلف في قوله (قَيِّماً) قال بعضهم :
القيم : هو الشاهد ، أي : القيم على الكتب المتقدمة ، والشاهد عليها في الزيادة والنقصان ، وفي التغيير والتحريف يبين ما زادوا فيها ، وما نقصوا وما حرفوه ، وما غيروه ، كقوله : (فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ...) الآية [البقرة : ٧٩]. وقوله : (يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ) [النساء : ٤٦]. وقوله : (وَإِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً ...) الآية [آل عمران : ٧٨] كانوا يحرفون نظمه ورصفه ، ومنهم من كان يحرف أحكامه وشرائعه ؛ فهذا القرآن شاهد ، وقيم في بيان ما فعلوا.
وقال بعضهم قوله : (قَيِّماً) أي : ثابتا قائما أبدا لا يبدّل ، ولا يغير ، ولا ينسخ ولا يزداد ، ولا ينقص ، وهو على ما وصفه (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ ...) الآية [فصلت : ٤٢]. وهو على ما وصف الحق بالثبات والقيام والباطل بالذهاب والتلاشي (كَذلِكَ يَضْرِبُ اللهُ الْحَقَّ وَالْباطِلَ ...) الآية [الرعد : ١٧] وما وصف الكلمة الطيبة بالثبات والقيام لها ، والخبيثة بالزوال والتغيير والذهاب فعلى ذلك هذا القرآن ، لأنه حق.
وقال بعضهم (١) : (قَيِّماً) ، أي : مستقيما ، وتأويل المستقيم : المستوي الموافق ، أي : يصدق بعضه بعضا ، ويوافق أوله آخره ، وآخره أوله ، أي : لم يخرج مختلفا ، وهو على ما قال : (وَلَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً) [النساء : ٨٢] ، ولو كان من عند غير الله على ما قال أولئك الكفرة ، لكان خرج مختلفا متناقضا ، ينقض أوله
__________________
(١) قاله الضحاك أخرجه ابن المنذر عنه كما في الدر المنثور (٤ / ٣٨٢).