عليهم من غير كد ولا جهد ولا مئونة ، وكذلك اللباس ؛ ثم لم يصبروا على ذلك حتى قالوا : (لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ) [البقرة : ٦١] فسألوا ربهم ـ الفوم ، والبصل ، ونحوه؟! على هذا طبع الإنسان ملولا عجولا ؛ ألا ترى أن الله مكن في باطنه ، وجعل في سعة رياضة نفسه ، وصرفها إلى أحد الوجهين اللذين يجهد عليه ولا يذم ، وهو أن يروضها ويعودها على الصبر والحكم والوقار ، ويصرف تلك العجلة إلى الخيرات والطاعات التي يحمد عليها المرء بالعجلة ، وإلا : ففي ظاهر الخلقة والطبع منشأ على العجلة وما ذكر ؛ ألا ترى أنه قال : (إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً. إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً. وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) [المعارج : ١٩ ـ ٢١] إلا كذا ، وهو ما ذكرنا ـ والله أعلم ـ لكن بما امتحنه من الأمر والنهي والترغيب في الموعود والترهيب صيره بحيث يملك إخراجه عما طبع وأنشئ إلى حال أخرى بالرياضة التي ذكرنا ؛ ألا ترى أنه ذكر الهلع والجزع ، ثم استثنى إلا كذا؟! وعلى ذلك خلق الله الخلق على همم مختلفة وأطوار متشتتة ، لم يخلقهم جميعا على همة واحدة ، بحيث يرغبون جميعا في معالي الأمور ومعاظم الحرف وأرفع الأسماء ؛ بل طبعهم على أطباع مختلفة : فمنهم من يرغب في معالي الأمور ومعاظم الأمور والحرف ، ومنهم من كانت همته الرغبة في الدون من الأمور والحرف في الحجامة والدباغة والحياكة ونحوها ، وكذلك في الأسماء ، [ومنهم بخلاف ذلك](١) ، ولو كانت همتهم همة واحدة ـ لذهب المنافع والمعارف جميعا ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهارَ آيَتَيْنِ).
اختلف فيه : قال بعضهم : المراد بالليل والنهار : الشمس والقمر ، أي : جعلنا في الشمس والقمر ؛ ألا ترى أنه أضاف الآية إلى الليل والنهار حيث قال : (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً) ، وحيث قال ـ أيضا ـ : و (وَلِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسابَ) [يونس : ٥] ، وإنما يعلم ذلك بالقمر ؛ ألا ترى أنه قال ـ أيضا ـ : (هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَالْقَمَرَ نُوراً ...) الآية [يونس : ٥] ، إنما أضاف معرفة عدد السنين والحساب إلى القمر ؛ دلّ أنه بالقمر يعلم ذلك ، وهو قول علي (٢) وابن عبّاس (٣) ـ رضي الله عنهم ـ وغيرهم من أهل التأويل ؛ ويكون تأويل المحو الذي ذكر في قوله : (فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ) ـ
__________________
(١) بدل ما بين المعقوفين في ب : ومنهم من كانت همته معالي الأمور ومعاظم الأعمال.
(٢) أخرجه ابن جرير (٢٢١١٨) و (٢٢١٢١) ، وابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن الأنباري في المصاحف ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٠٢).
(٣) أخرجه ابن جرير (٢٢١٢٣) ، و (٢٢١٢٤) ، وابن المنذر ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٠٢).