وكذلك ما روي : «إذا حلفتم فاحلفوا بالله ولا تحلفوا بآبائكم ولا بالطواغيت» (١) نهى عن الحلف بغير الله ؛ لما في الحلف به تعظيم لذلك الشيء ، وأما العدة ، فإنما هي إضافة الفعل إلى نفسه ، وهو لا يملك تحقيقه ؛ لذلك أمر أن يلحق الثنيا فيه ؛ لئلا يلحقه الخلف في الوعد إذا لم يفعل ما وعد ، وعلى ذلك ذكر عن الأنبياء أنهم إذا وعدوا استثنوا فيه ؛ كقول موسى : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً ...) الآية [الكهف : ٦٩] ، ثم إذا لم يصبر لم يعاتبه بترك الصبر ، ولو كان خلفا لعاتبه ، كما عاتب موسى حيث قال : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) [الكهف : ٧٢] وقد ظهر من الأنبياء والرسل الأيمان والقسم ، ثم لم يذكر عن أحد منهم الثنيا في ذلك ؛ دل أن الثنيا في العدات لازمة وفي الأيمان لا.
وفي قوله : (وَلا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً. إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) دلالة ألا يكون شيء إلا بمشيئة الله حيث ندبه إلى الثنيا ، ثم إذا خرج على غير ما وعد لم يلحقه الخلف في الوعد ؛ دل أنه قد شاء ذلك ، وأنه إذا لم يشأ شيئا لم يكن ؛ لأنه لو كان شيئا لم يشأ هو ، أو شاء شيئا فلم يكن ـ لم يكن لقوله : (إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ) معنى إذا كان ما لم يشأ هو ، ولم يكن ما هو شاء ؛ دل أن [ما] شاء هو كان ، وما لم يشأ لم يكن.
وفيه أنه قد شاء كل طاعة وخير من العبد ، فلو لم يشأ ما ليس بطاعة ، لكان لا يستثني ، وقد علم أنه قد شاء ذلك ، فدل ثنياه على أنه قد يشاء ما ليس بطاعة إذا علم أنه يختار ذلك ، وذلك على المعتزلة.
فإن قيل : إنما أمر بالثنيا في العدة ؛ لما لعله سيموت قبل أن يفعل ما وعد ، أو تذهب عنه القدرة فيعجز عما وعد.
قيل : إن الأوهام لا ترجع إلى ذلك ، بل الإمكان مشروط فيه وإن لم يذكر ؛ نحو ما لا يؤمر الإنسان بالطيران ؛ لعدم الإمكان فيه موجودا فهو كالمشروط وإن لم يذكر ، فعلى ذلك في العدات والأيمان وغيرها.
__________________
(١) أخرجه البخاري (١١ / ٥٣٨) كتاب : الأيمان والنذور ، باب : لا تحلفوا بآبائكم ، حديث (٦٦٤٧) ، ومسلم (٣ / ١٢٦٦) كتاب : الأيمان ، باب : النهي عن الحلف بغير الله ، حديث (٢ / ١٦٤٦) ، والترمذي (٤ / ٩٣) كتاب : النذور والأيمان ، باب : ما جاء في كراهية الحلف بغير الله ، حديث (١٥٣٣) ، والنسائي (٧ / ٤) كتاب : الأيمان ، باب : الحلف بالآباء حديث (٢٧٦٦) ، والحميدي (٢ / ٢٨٠) رقم (٦٢٤) ، والطيالسي (١ / ٢٤٦ ـ منحة) رقم (١٢١١) ، وابن الجارود (٩٢٢) ، وأحمد (٢ / ٧ ، ٨) ، وأبو يعلى (٩ / ٣١٤) رقم (٥٤٣٠) ، والطحاوي في مشكل الآثار (١ / ٣٥٤ ـ ٣٥٥) ، والبيهقي (١٠ / ٢٨) كتاب : الأيمان ، باب : كراهية الحلف بغير الله عزوجل ، كلهم من طريق الزهري عن سالم عن أبيه به مرفوعا.
وقال الترمذي : حديث ابن عمر ، حديث حسن صحيح.