ثم في قوله : (بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ) [المائدة : ٦٧] ، وقوله : (وَاتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ) فريضة ضيعناها ؛ وذلك أنه أمر رسوله بتبليغ رسالته وما أنزل إليه ، ثم معلوم أن من كان في أقصى الدنيا وأبعد أطرافها لم يقدر رسوله أن يتولى التبليغ بنفسه وكذلك بعد وفاته لا يجوز أن يتولى بتبليغه ، فكان ذلك القيام يلزم المسلمين وأئمتهم بتبليغه فضيعوا ذلك ؛ ولهذا ما رخص ـ والله أعلم ـ بدخول المسلمين دار الحرب للتجارة ، ودخول أولئك دار الإسلام للتجارة أيضا ؛ لينتهي إليهم خبر هذا الدين ؛ حيث علم أنه يكون أئمة في آخر الزمان لا يهتمون لدينه ولا يتولون بتبليغ ما أمروا بتبليغه ، ويضيعون أمره ، فيلزمهم حجة الله ، وإلا ما الحاجة في تلك التجارة والأموال التي يتجرون فيها؟! ولكن ما ذكرنا ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) :
قال بعضهم : لا مبدل لسنته ؛ إذ سنته في المكذبين الإهلاك ، والمصدقين النجاة ، هذا سنته وإن أمكن تعجيلها وتأخيرها ، فأما نفس سنته فهي لا تبدل ولا تحول ؛ كقوله : (وَلا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً) [الإسراء : ٧٧] و (تَبْدِيلاً) [فاطر : ٤٣].
وقال الحسن في قوله : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) : ما وعد وأوعد لهم في الدنيا ، فذلك في الآخرة لا يبدل ولا يحول ؛ إذ وعد للمؤمنين الجنة ، وللكافرين العذاب ، فذلك لا يبدل.
وقال بعضهم (١) : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) وهي القرآن لا يتبدل ، ولا يغير ، ولا يزداد ، ولا ينقص ؛ كقوله : (لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ) [فصلت : ٤٢].
وقال بعضهم : (لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ) لحججه وبراهينه التي جعل لدينه وأقام له ذلك ، يلزم الإسلام ودينه ، إلا من قصر عليه في العبادة ، أو كان المقام عليه الحجة معاندا مكابرا.
وأما من لم يكن هذين المعنيين يسلم لا محالة ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً).
هذا الخطاب وإن كان في الظاهر لرسول الله ، فهو يخرج مخرج التنبيه على ما ذكرنا في غير آي من القرآن.
وقوله : (مُلْتَحَداً) قال بعضهم (٢) : مدخلا ؛ ولذلك سمي اللحد : لحدا ؛ لما يدخل
__________________
(١) قاله الكلبي ، كما في تفسير البغوي (٣ / ١٥٨).
(٢) قاله الحسن ، كما في تفسير البغوي (٣ / ١٥٩).