اختلف أهل التأويل في ضرب هذا المثل :
قال بعضهم : ضرب هذا لمشركي العرب ؛ لأنهم ينكرون فناء الدنيا وهلاكها ؛ لأنها لا تبيد أبدا ، فيقول : إن الذي يعاينون من فناء ما ذكر من النبات وغيره وهلاكه ـ هو جزء منها ؛ فإذا احتمل جزء منها الفناء والهلاك ؛ فعلى ذلك الكل.
وقال بعضهم : وجه ضرب هذا المثل ، وهو أن أهل الدنيا وطلابها إذا ظفروا بالدنيا وطمعوا الانتفاع بها والاستمتاع بها ، كما طمع الزراع الظفر بذلك الزرع ، والوصول إلى الانتفاع به ، ثم حيل بينهم وبين الانتفاع بالزرع والوصول إلى مقصودهم فعلى ذلك الدنيا يحال بين أهلها وطالبيها وبنيها.
وقال بعضهم : وجه ضرب مثل الدنيا بما ذكر من النبات ـ للتزيين والتحسين لأهلها والتعجيب لهم ؛ لأنها تتزين وتحسن لأهلها كالنبات الذي ذكر أنه يعجب أهلها ويتزين لهم ثم يفسد ويصير مواتا ؛ فعلى ذلك الدنيا ، وهو ما ذكر في آية أخرى : (كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ...) [الحديد : ٢٠] الآية : هكذا وما فيها كله مشوب بالآفات والفساد.
في هذا المثل وجوه من الحكمة والدلالة.
أحدها : العظة والاعتبار للمتفكرين والمعتبرين ، والحجة على المعاندين والمكابرين : في إنكارهم حدث العالم ومحدثه ، وإنكارهم فناء العالم ، وإنكارهم البعث.
أمّا حدث العالم ؛ لما عاينوا حدوث أشياء منه واحدا بعد واحد ؛ فعلى ذلك الكل ، وأراهم أيضا فناء أشياء منها حتى لم يبق لها أثر ، ثم حدث مثلها ، فإذا ظهر هذا في بعض منها ؛ فكذلك الكل ؛ فإذا ظهر حدوثه وفناؤه لا بد من قاصد يحدثها.
وفيه دلالة البعث بما أراهم [أنه] يجدد ويحدث هذه الأنزال والأشجار والنبات وغيره والعود على ما كان بعد فنائه ؛ فعلى ذلك إعادة العالم الذي هو المقصود في إنشاء تلك الأشياء ، وذلك أولى بالإعادة من غيرهم من الأشياء ؛ إذ هم المقصودون في خلق غيرهم من الأشياء.
وبعد ، فإنهم قد اتفقوا على أن خلق الشيء وفناءه للهلاك خاصّة من غير مقصود وعاقبة ـ عبث ليس بحكمة ، فلو لم يكن بعث ولا إعادة لم يكن في خلقه إياهم حكمة ؛ لأنه يحصل خلقه للفناء والهلاك خاصّة.
وفي قوله : (كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ ...) الآية دلالة علمه وتدبيره وقدرته ؛ لأنه أخبر أنه ينزل من السماء ماء يختلط به نبات الأرض ، والماء من طبعه إفساد النبات إذا اختلط به