وفيه : أن الثنيا إنما تلزم في كل فعل مستقبل مما يشك فيه ويرتاب ، فأما ما كان سبيل معرفته الوحي واليقين ـ فإنه لا يستثنى فيه حيث قال موسى لفتاه (لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً) : قال ذلك من غير ثنيا ؛ لأنه ـ عزوجل ـ أمره أن يأتيه ، ولا يحتمل أن يؤمر بالإتيان في مكان ، ثم هو يشك أنه لعله لا يأتيه ؛ لذلك قطع القول فيه ، وكذلك قول ذلك العبد الصالح لموسى : (إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً) : قطع القول فيه من غير ثنيا ؛ لأنه علم بالوحي أنه لا يصبر على ما يرى منه ، وأمّا موسى فإنه قد استثنى فيما وعد أنه يصبر ؛ لأنه أضاف إلى حادث من الأوقات على الشك منه أنه يصبر أو لا يصبر ، وعلى الارتياب ليس على اليقين ، فقال : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْراً) مما ذكرنا.
وفيه : أن الرجل إذا اختلف إلى عالم يقتبس منه العلم ويتعلم منه ، فرأى منه مناكير ومظالم ـ يلزمه أن يفارقه ، ولا يتعلم منه العلم ؛ كصنيع موسى بصاحبه ؛ لما رأى ؛ من خرق السفينة ، وقتل الغلام ، وغيره مما كان منكرا وظلما في الظاهر ، وإن كان ما فعل هو فعل الأمر كره موسى صحبته ، وندم على ذلك أشدّ الندامة حتى جعله على علم من ذلك كله ، فهكذا الواجب على الرجل إذا رأى مناكير من الذي يأخذ منه العلم ومظالم أن يفارقه ولا يأخذ من علمه ، والله أعلم.
وفي قوله : (سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللهُ صابِراً) دلالة أن الاختيار والمستحب في الثنيا أن يكون في ابتداء الكلام ؛ لأن موسى ابتدأ به ، وكذلك قوله : (وَإِنَّا إِنْ شاءَ اللهُ لَمُهْتَدُونَ) [البقرة : ٧٠] ، فإذا تركه في أول كلامه أو نسي يستثنى في آخره ؛ فيعمل عمله في دفع الخلف في الوعد والكذب ، وعلى هذا تأوّل بعض النّاس قوله : (وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ) [الكهف : ٢٤] ، أي : استثن في آخره إذا نسيت في أوّل كلامك ، والله أعلم.
ثم هذه القصص والأنباء التي ذكرت لرسول الله على أثر سؤال كان منهم ، على ما ذكرنا في قصة أصحاب الكهف وغيرها من القصص ، أو على غير سؤال ، ولكن كانت في كتبهم ؛ فذكرها له ليعلم أنّه إنما عرف بالله تعالى.
ثم اختلف أهل التأويل في السبب الذي أمر موسى على طلب العلم من عند ذلك الرجل وبعثه عليه.
قال بعضهم (١) : وذلك أن موسى قام خطيبا في قومه ، فخطب خطبة لم يخطب قط
__________________
(١) ورد في معناه حديث عن ابن عباس :
أخرجه البخاري (٩ / ٣٣١ ـ ٣٣٢) كتاب التفسير : باب قوله : (فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً) (٤٧٢٦) ، ومسلم (٤ / ١٨٤٧) ، كتاب الفضائل : باب من ـ