وقال بعضهم (١) : (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً) : من غير كلامهم ولسانهم ؛ ولكن يفقهون بلسانهم وكلامهم ، وذو القرنين كان يعرف الألسن كلها ؛ ففقهوا هم [منه] وفقه هو منهم ؛ حيث قالوا (يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) ، أي : جعلا أجرا ، (عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا).
وقال هو : (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) : فهم ذو القرنين منهم ، وفهموا منه أيضا ما ذكرنا ؛ فدل ذلك أنهم كانوا يفقهون بلسان غيرهم ، وفي الآية دلالة أنهم لا يفقهون شيئا قليلا من القول ، وإن كانوا لا يفقهون كثيرا ؛ لأنه يقول : (لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ) ؛ فهو يتكلم على العرف لا على النفي رأسا ، والله أعلم.
وقوله : (قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً) : جعلا وأجرا ؛ (عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَبَيْنَهُمْ سَدًّا. قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ).
على تأويل الحسن يكون قوله : (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي) من النبوة (خَيْرٌ) ؛ لأنه يقول : إنه كان نبيا ؛ حيث قال له : (إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ).
وعلى قول غيره يكون (ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي) : من الملك والسبب الذي أعطاني ، وأبلغ به مغرب الشمس ومطلعها (خَيْرٌ) مما تذكرون.
وقوله : (فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ) ، أي بما أتقوى به ، (أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً) ، أي : سدّا.
وقوله ـ عزوجل ـ : (آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ) ، أي : قطع الحديد.
وقال بعضهم : سألهم الحديد ؛ لأن المكان مكان الحديد.
وقال بعضهم : إن الحديد كان ألين لهم وأطوع من اللّبن أو القطر ، ولكن لا يعلم ذلك إلا بالسمع.
وقوله ـ عزوجل ـ : (حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ).
أي : بلغ ذلك السد رأس الصدفين ، وهما جبلان ، وسوى بهما ، والله أعلم.
وقوله : (قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً).
أي : أصب عليه قطرا ، قيل : نحاسا ، وقيل : رصاصا ، ذكر أنه كان يبسط الحديد صدرا ، ثم يبسط الحطب فوقه صدرا ، ثم حديدا فوق الحطب ، حتى بلغ رأس الجبلين ، وسوى بهما على هذا السبيل ، ثم أذيب القطر ، فصب فيه ، فجعل القطر يحرق الحطب ، ويذيب الحديد ؛ حتى دخل القطر مكان الحطب ، وصار مكانه ؛ فالتزق القطر بالحديد ، على هذا ذكر أنه بنى ذلك السدّ.
وقال الحسن : كأنه القطر له كالملاط لنا ، والله أعلم.
__________________
(١) قاله ابن عباس ، كما في تفسير البغوي (٣ / ١٨٠).