وقال بعضهم : لم ينزل الله كتابا إلا وله فيه سرّ لا يعلمه إلا الله ، وسرّ القرآن فواتحه.
وقال بعضهم : تفسيره ما ذكر على أثره ، وهو قول الحسن ، وأمثال هذا قد أكثروا فيه ، وقد ذكرنا الوجه في الحروف المقطعة فيما تقدم في غير موضع.
وقوله ـ عزوجل ـ : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا) هذا يحتمل وجهين :
أحدهما : على الأمر ، أي : اذكر لهم رحمة ربك عبده زكريا بالإجابة له عند سؤاله الولد في الوقت الذي أيس عن الولد في ذلك الوقت ؛ فيكون فيه دلالة رسالته ، حيث ذكر لهم رحمة ربه على زكريا ، وأخبرهم على ما في كتبهم.
والثانى : (ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ) : هذا ذكر رحمة ربك لعبده زكريا في دعائه ، وعلى هذا التأويل يكون الذكر هو القرآن ، وقد سمى الله القرآن : ذكرا في غير آي من القرآن ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا).
قال بعضهم : نداء خفيّا في قلبه على الإخلاص من غير أن ينطق به.
وقال بعضهم : نداء خفيّا عن قومه ومن حضره.
ثم يحتمل وجهين :
أحدهما : أخفاه وأسرّه منهم إخلاصا لله وإصفاء له.
والثانى : أخفاه وأسره منهم حياء أن يعيبوه أن سأل ربه الولد في وقت كبره وإياسه ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي) أي : ضعف ورق (وَاشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً) : اعتذر إليه ، وقدم زكريا ما حل به من الكبر وبلوغه الوقت الذي لا يطمع في ذلك الوقت الولد ، أي : بلغت المبلغ الذي ضعف بدني ، ورق عظمي ، ثم سأل ربه الولد ليس على أنه كان لا يعرف قدرة الله أنه قادر على هبة الولد ، وإنشائه في كل وقت في وقت الكبر والضعف ، وبالسبب وبغير السبب ؛ لكنه لأنه يعرف أنه [لا] يسع ويصلح سؤال الولد وهبته في الوقت الذي كان بلغ هو ، وهو الوقت الذي لا يطمع فيه الولد في الأغلب ، وهو ما ذكر في سورة آل عمران : (كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللهِ) [٣٧] فعند ذلك عرف زكريا أنه يسعه دعاء هبته الولد وسؤاله في وقت الإياس ، حيث رأى [عند] مريم فاكهة الشتاء في الصيف ، وفاكهة الصيف في الشتاء غير متغيرة عن حالها ، فسأل عند ذلك ربه الولد ، وهو قوله : (هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ...) الآية [آل عمران : ٣٨] ، والله أعلم.