الإضمار ، كأنه قال : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ) بالقول بأن أهب لك غلاما زكيّا ، أي : أرسلني إليك بهذا القول وهو قوله : (لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا).
وفي حرف ابن مسعود (١) : (إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا).
وقوله ـ عزوجل ـ : (زَكِيًّا) أي : صالحا ، طاهرا عن جميع الشرور.
وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَلَمْ أَكُ بَغِيًّا) ، أي : قالت : لم يمسسنى بشر ، يعلم أنه لم يمسها بشر لا تقي ولا غيره ، لكن كأنها قالت : لم يمسسني بشر نكاحا ولم أك بغيّا ، فمن أين يكون لي ولد؟ كأنها لم تعرف الولد إلا بسبب ؛ لذلك قالت : (أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ).
وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ) ، أي : أخلق بسبب وبلا سبب.
وقوله ـ عزوجل ـ : (هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ) أي : خلق الشيء بسبب وبغير سبب هيّن عليّ.
وقال بعضهم : قوله : (قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ) للأنبياء الذين كانوا من قبل : إنه يخلق ولدا بلا أب ولا أمّ.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) ، أي : نجعل ولادته بلا أب على ما أخبر الأنبياء من قبل ـ آية للناس لرسالتهم ؛ لأنهم أخبروا أنه يولد ولد بلا أب ولا أم ، فكان ما أخبروا ، فدلّ ذلك أنهم إنما عرفوا ذلك بالله ؛ فيكون ذلك آية لصدقهم ، ويكون قوله : (وَكانَ أَمْراً مَقْضِيًّا) أي : ذلك الخبر الذي أخبر الأنبياء من قبل ، والوعد الذي وعد لهم أمرا مقضيّا كائنا.
وقال أهل التأويل في قوله : (وَلِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ) ، أي : نجعل عيسى آية للناس حيث ولد بلا أب ، وكلم الناس في المهد ، وغير ذلك من الآيات التي كانت فيه.
وجائز أن يكون آية للناس للبعث ؛ لأنه أنشأه بلا أب ولا سبب ، وهم إنما أنكروا البعث لما لم يعاينوا الولد بغير أب أيضا ثم كان ، فعلى ذلك البعث ؛ إذ لا فرق بينهما ؛ لأن من قدر على إنشاء الولد بلا أب ولا أم قدر على الإحياء بعد الموت ، بل هو أولى.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَرَحْمَةً مِنَّا) أي : رحمة منا للخلق ؛ لأن من اهتدى واتبعه كان له به نجاة ، وهو ما قال الله تعالى لرسوله : (وَما أَرْسَلْناكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ) [الأنبياء : ١٠٧] وعلى ذلك جميع الأنبياء والرسل الذين بعثهم الله إلى خلقه كان ذلك رحمة منه إلى خلقه.
__________________
(١) أخرجه عبد بن حميد ، كما في الدر المنثور (٤ / ٤٨١).