في كل ذلك على ما ذكر على إثره ، وكذلك يقول في جميع الحروف المقطعة : إن تفسيرها ما ذكر على إثرها.
وأمّا غيره من أهل التأويل فإنه يقول : واذكر لهم نبأ إبراهيم وقصته في الكتاب لهم ، واذكر في الكتاب نبأ موسى وخبره وذكره ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا) :
الصديق : إنما يقال لمن كثر منه ما يستحق ذلك الاسم ، وكذلك التشديد إنما يشدد إذا كثر الفعل منه وصار كالعادة له والطبع ، فكأنه سمى بهذا لما لم يكن يجعل بين ما ظهر له من الحقوق والفعل وبين وفائها وأدائها إليها نظرة ولا مهلة ، بل كان يفي بها ويؤديها كما ظهر له ، ولذلك سماه ـ والله أعلم ـ : وفيّا بقوله : (وَإِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى) [النجم : ٣٧] ، وقال في آية أخرى : (وَإِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَ) [البقرة : ١٢١] سماه : وفيّا ، كانت عادته القيام بوفاء ما ظهر له وإتمام ما ابتلاه به ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ) إذا دعوته (وَلا يُبْصِرُ) لو عبدته (وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) إذا احتجت إليه وسألته.
ويحتمل أن يكون قوله : (ما لا يَسْمَعُ) أي : لا يجيب لو دعوته واحتجت إليه ، (وَلا يُبْصِرُ) حاجتك إذا احتجت إليه ، (وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) ، أي : لا ينصرك.
وقال بعضهم : (وَلا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً) من عذاب الله في الآخرة.
يقول : كيف لا تعبد من إذا دعوته سمع ، وإذا عبدته أبصر ، ونصرك إذا احتجت إليه وسألته (١) ، والله الموفق.
وقوله ـ عزوجل ـ : (يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ) ، أي : من بيان ما يحل بك بعد الموت ، إذا مت على ما أنت عليه ، (ما لَمْ يَأْتِكَ) ذلك (فَاتَّبِعْنِي) إلى ما أدعوك إليه من دين الله ، (أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا) ، أي : دينا عدلا سويّا قيما لا عوج فيه ، فهذا يدلّ منه أنه قد أوحى [إليه] في ذلك الوقت ، ويشبه أن يكون عرف ذلك استدلالا منه واجتهادا على غير وحي ، كقوله : (هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ) [الأنعام : ٧٨] حتى انتهى إلى قوله : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً) [الأنعام : ٧٩] وكل ذلك كان له من الله ؛ ألا ترى أنه قال في آخره : (وَتِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ) [الأنعام : ٨٣].
__________________
(١) ينظر : اللباب (١٣ / ٧٣ ـ ٧٤).