كانا يؤثرانه على أنفسهما [في السرور ، ويجعلان أنفسهما وقاية له من كل سوء ومحذور ، فأمر الولد أن يشكر لوالديه ؛ جزاء ومكافأة لما كان منهما مما ذكر.
وهذا ذكر في الحال التي عجزاهما عن القيام لأمر أنفسهما](١) والحوائج لهما ، وذلك ـ والله أعلم ـ لأنهما إذا كانا قويين ، قادرين لحوائج أنفسهما ومنافعهما يبران ولدهما ، ويحسنان إليه ؛ فيحمل برّهما وإحسانهما إليه على الطاعة لهما في البرّ ، والإحسان إليهما على المجازاة ، وهكذا المعروف عند الناس أنه إذا بر بعضهم بعضا يبعث ذلك على المكافأة ؛ ليدوم ذلك عليهم وألا ينقطع ؛ لذلك ذكر ـ والله أعلم ـ الإحسان إلى الوالدين في الحال التي هي حال ضعف وعجز ؛ حيث قال : (إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما).
ثم أمره أن يذكر الحال التي هو عليها ، وهو حال طفوليته وصغره : أن كيف ربّياه ، وبراه ، وعطفا عليه ، ولانا له ـ قولا وفعلا ـ حتى لم يستقذرا منه شيئا مما يستقذر الناس بعضهم من بعض ، ولم يبعدهما عنه ما يبعد الخلق بعضهم من بعض من أنواع الأذى والخبث؟! فأمره أن يعاملهما إذا بلغا الحال التي كان هو عليها : من الجهل والضعف ، والعجز عن القيام بالحوائج على ما كان هو ، وبلغا المبلغ الذي يستقذر منهما ويبعد عنهما ، أي : لا يستقذر هو منهما ، ولا يبعد عنهما ؛ كما لم يستقذرا هما منه ، ولا ينهرهما عند السّؤال والحاجة إليه ؛ كما لم يفعلا هما [له](٢) ؛ بل يلين لهما ويذل كما لانا هما له وخضعا ، وهو ما قال : (وَاللهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ ...) الآية [النحل : ٧٠] ، وقال في آية أخرى : (اللهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَشَيْبَةً) [الروم : ٥٤] أخبر أنه يرد من بعد القوة والعلم إلى الحال التي كانوا عليها وهو حال الضعف والجهل ؛ حيث قال : (وَاللهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ ...) الآية [النحل : ٧٨] ، وقال : (خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ...) الآية [الروم : ٥٤].
فقال : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما).
وقال بعضهم : قوله : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) : هو كناية عن إظهار الكراهة لهما في الوجه (٣) ، (وَلا تَنْهَرْهُما) ، أي : لا تعنّفهما في القول والكلام على ما لم يفعلا هما بك.
وقال بعضهم : (أف) المراد به : هو (أف) لا غير ، (وَلا تَنْهَرْهُما) ، أي : لا تعنفهما ،
__________________
(١) ما بين المعقوفين سقط في أ.
(٢) سقط في ب.
(٣) ينظر : اللباب (١٢ / ٢٥٦ ، ٢٥٧).