ولا تخشن ، لكنه ذكر أول حال الاستثقال والكراهة منه وآخرها ، أي : لا تقل لهما (أف) على ما يستثقل الناس شيئا ويكرهون في أول حال يرون شيئا مستثقلا مكروها ـ يقولون : أف ، أي : لا تقل أف ؛ لئلا يحمل ذلك على العنف والخشونة والنهر ؛ وعلى هذا المعنى قالوا في قوله : (قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ...) الآية [النور : ٣٠] ، قال بعضهم : يغضوا من أبصارهم وليحفظوا فروجهم ؛ لأن النظر بالبصر يحمله على الزنى في الفرج ؛ ومنه يكون بدء الفجور.
وقال بعضهم قوله : (يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَيَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ) [النور : ٣٠] : ذكر أوّل حال وآخرها ؛ ليمتنعوا عن كل ذلك ؛ فعلى ذلك قوله : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُما) : ذكر أوّل الحال وآخرها.
والثانى ، أي : لا تظهر في وجهك من الكراهة والاستثقال ليحمل ذلك على العنف والانتهار. فإن كان تأويل قوله : (أُفٍ) ـ (أف) لا غير ، ففيه حجة لأبي حنيفة ـ رحمهالله ـ في قوله : إذا نفخ المصلي في موضع سجوده ، فهو كلام يقطع صلاته ؛ حيث قال : (فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ) ، أي : لا تتكلم به ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً).
حيث نهاه أن يقول لهما : أف ، ونهاه أن ينهرهما ؛ فإذا امتنع عن الأفّ والنهر كان بعد ذلك قولا ليّنا لطيفا.
قال أبو عوسجة : يقال : نهرته وانتهرته ، وهو الخشن من الكلام شبه الوعيد.
وقال أبو بكر الكيساني : الكريم : هو الذي يولي على آخر نعمه ، ويهنيه بترك الأذى والمنّ ؛ كقوله : (لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذى) [البقرة : ٢٦٤] ، وقال غيره : في وصف السخي ، فقال : الذي يبذل ما احتوى عليه لمن احتاج إليه ، وقطع طمعه عما احتوى عليه غيره عند حاجته إليه. ويشبه أن يكون الكريم قريبا منه.
فإن قيل : إن الوالدين كالمجبولين المطبوعين على البرّ لأولادهما ، والشفقة عليهم ، ولا كذلك الأولاد ؛ فكيف يشبه بر من كان مجبولا به مطبوعا عليه ـ برّ من لم يكن ذلك بطبعه.
قيل : لذلك ذكر هذا في الولد دون الوالدين ، وأمرهم بذلك ؛ لأن ما يفعل الوالدان من البرّ والإحسان إلى الولد يفعلان بطبع ، والولد لا ؛ لذلك كان ما ذكر والله أعلم. ولهذا ما لم يجعل ولم يشرع قتل الوالد بولده ؛ إذ [ليس] القصاص حياة بينهم ، وشرع قتل الولد بوالديه ؛ إذ في الوالدين من الشفقة والرحمة ما يمنع قتل الولد ، وليس في الولد ذلك ؛