فجعل في قتل الولد والديه القصاص ، ولم يجعل في قتل الوالدين ولدهما ؛ فعلى ذلك هذا في البرّ والإحسان.
فإن قيل : ما الحكمة فيما قرن الله من شكر والديه شكره في غير آية من القرآن : (اشْكُرْ لِي وَلِوالِدَيْكَ) [لقمان : ١٤].
قيل : لأنه بهما كان نماؤه من أول حاله إلى آخر ما انتهى إليه من التغذية والتربية والوقاية من كل سوء والحفظ من كل آفة وشر.
وفي الآية دليل لقول أبي حنيفة ؛ حيث قال في المكاتب : إذا اشترى والده أو أمّه صار مكاتبا ، وإذا اشترى أخاه أو ذا رحم محرم منه ـ لم يصر مكاتبا ؛ لأن الأب والأم يصيران كذلك بحق الجزاء والشكر ؛ فعليه ذلك ، وأمّا الأخ وغيره من المحارم بحق المعروف ؛ فملكه لا يحتمل ذلك.
والخطاب من الله ـ وإن كان مع رسوله ـ فالمراد منه غيره ؛ لأن رسول الله معلوم أنه لم يدرك والديه في الوقت الذي أرسل إليه وخاطبه بما خاطب ؛ دلّ أنه أراد بالخطاب غيره ـ كل محتمل [منه](١) ذلك وموهوم منه ـ وأمره أن يعاملهما بالمعاملة التي ذكر ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَاخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ).
يحتمل أن يكون الجناح كناية عن اليدين ؛ لأن اليدين في الإنسان بموضع الجناح للطائر ، وجناح الطائر يداه ؛ فكأنه قال : اخفض واخضع لهما بيديك كما أمره أن يخضع لهما بلسانه بقوله : (وَقُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً) ، أي : اخضع لهما قولا وفعلا.
ويحتمل أن يكون الجناح كناية عن النفس ، أي : اخضع لهما بجميع النفس والجوارح ، وقوله : (الذُّلِ) : يحتمل أن يكون المراد من الذل : الذل نفسه ، أي : كن لهما كالمستعين المحتاج إليهما لا كالمعين لهما قاضي الحاجة ، ولكن ذليلا كالمستعين من الآخر رافع الحاجة إليه. ويحتمل أن يكون الذلّ كناية عن الرحمة التي تكون في القلب ، أي : اخضع لهما برحمة القلب والجوارح جميعا ؛ ألا ترى أنه قال : (أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ) [المائدة : ٥٤] ، أي : رحماء على المؤمنين أشداء على الكافرين ؛ ألا ترى أنه قال في آية أخرى : (أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ) [الفتح : ٢٩]. وذكر مقابل الذل في تلك الآية ـ الرحمة في هذا ، ومقابل العزة ـ الشدة؟! فعلى ذلك يحتمل أن يكون قوله : جناح الذل كناية عن الرحمة ؛ فيكون معناه : أن اخضع لهما
__________________
(١) سقط في أ.