تشبيهه بخلقه ، سبحانه وتعالى عما يقول الظالمون علوّا كبيرا.
وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى. قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) ، وقال في آية أخرى : (وَما رَبُّ الْعالَمِينَ. قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَالْأَرْضِ وَما بَيْنَهُمَا) الآية [الشعراء : ٢٣ ، ٢٤] ، و (رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَما بَيْنَهُما) [الشعراء : ٢٨] ، سأله عن ماهيته ، فأجابه موسى عن آثار صنعه في خلقه ، وأنه ربّ كل شيء ، وربّ ما ذكر ، لم يجبه عما سأله من ماهيته وكيفيته ، حيث قال : (فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى) ، فجوابه عن الماهية : ربنا فلان ، وأنه كذا ، ففيه دلالة أن الله لا يعرف من جهة الماهية والكيفية ؛ إذ لا ماهية ولا كيفيّة ؛ إذ هما أوصاف الخلق ، فالله سبحانه يتعالى عن أن يوصف بشيء من صفات الخلق.
ثم يحتمل قوله : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى) وجوها :
أحدها : أعطى كل شيء يكون ، صورة ما قد كان معاشه وقوامه ؛ ليعلم أنه قادر على بعثهم على الصّورة التي كانت.
وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ هَدى) فهو على قوله : أعطى كل شيء ثم هدى ، فإن كان التأويل : أعطى كل شيء صورته وهيئته ، فقوله : (ثُمَّ هَدى) للنجاة ، وإن كان أعطى جنسه وشكله ثم هداه للنسل ، وإن كان قوله : (أَعْطى كُلَّ شَيْءٍ) ما به معاشهم وقوامهم ، ثم هداه لما يتعيشون به ، ويقومون به ، وهداه لما يصلح لهم وما لا يصلح لهم ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى. قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ).
قال بعضهم : إنما سأل فرعون موسى عن القرون الأولى ؛ لأنه سمع من ذلك الرجل المؤمن حين قال : (إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ) [غافر : ٣٠] ولم يكن لموسى بهم علم ، فوكل علمهم إلى الله ، ثم أنزل الله عليه التوراة ، فبيّن له فيها أمرهم.
وقال بعضهم : سأل فرعون موسى ذلك ؛ لأن موسى أخبر أنه يبعث ، وخوفه على ذلك ، فعند ذلك قال : (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) لم يبعثوا منذ أهلكوا؟ فقال له ما قال.
وقال بعضهم : قوله : (فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى) إنّما سأله عن حال القرون الأولى أهم في الجنة أو في النار ، فقال : (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي).
وقال بعضهم : إنما سأله عن أعمالهم : فما أعمال القرون الأولى؟ فقال : (عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي) أي : أعمالهم عند ربي في كتاب مرقوم ، وقوله : (سائِقٌ وَشَهِيدٌ) [ق : ٢١] وقوله : (فِي كِتابٍ) قال بعضهم : الكتاب الذي أثبتت فيه أعمالهم ، وقال بعضهم (١) : في اللوح
__________________
(١) قاله البغوي (٣ / ٢٢٠).