يموّه على قومه ويلبس عليهم أمر موسى وما جاء [به] من الآيات والحجج ؛ لأنه هو الذي رباه ونشأ بين ظهرانيه وأهله ، فعلم أنه لم يتعلم السحر من أحد ، [و] لما فارقه وخرج من عندهم إلى مدين لم يكن هناك من يتعلم منه السحر ، لكنه أراد التمويه والتلبيس على قومه ، وكذلك أهل مكة حيث نسبوا رسول الله إلى السحر والكهانة والافتراء والجنون وغيره ، علموا أنه ليس بساحر ولا كاهن ولا مجنون ولا مفتر ؛ لأنه نشأ بين أظهرهم صغيرا لم يؤخذ عليه كذب قط على أحد من الخلائق ، فكيف على الله تعالى؟ ولا رأوه اختلف إلى أحد من السحرة والكهنة في تعلم ذلك ، لكنهم أرادوا بذلك التمويه والتلبيس على الناس ؛ لئلا يتبعوه ولا يجيبوه إلى ما دعاهم إليه من دين الله وتوحيده.
ثم الرسل ـ صلوات الله عليهم ـ لو لم يكن معهم الآيات المعجزة ولا الحجج النيرة ، كانت أنفسهم وما طبعوا عليه من السيرة الحسنة والأخلاق الكريمة الجميلة وما اختاروا من الأمور العظيمة الرفيعة ـ دالة على رسالتهم ونبوتهم ، فكيف وقد جاءوا بالآيات المعجزة والبراهين المنيرة؟ وما بطبع السحرة من السيرة المذمومة والأخلاق الدنيئة والأمور الخسيسة ، يدل على كذبهم وافتعالهم ، فكيف أشكل عليهم معرفة السحر من الرسالة والتمويه من الحجة ، لكنهم أرادوا بذلك ما ذكرنا من التمويه على قومهم ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ).
يشبه أن يكون هذا الوعيد منه في وقتين : أوعدهم أولا بقطع اليد والرجل من خلاف على الإبقاء ؛ رجاء أن ينتهوا عما اختاروا ، فإذا لم ينتهوا عنه ، فعند ذلك أوعدهم بالقتل والصلب ؛ إذ في القتل والصلب إتلاف ما دونه من الجوارح ، فإن كان على هذا ففيه أن كل حد يراد به الإبقاء ، فإنه لا يؤتى على الجوارح كلها ، والقطع في السرقة قد يراد به الإبقاء ؛ لذلك لا يؤتى على الجوارح كلها ، وكذلك [حد] قطاع الطريق ؛ إذ يراد به الإبقاء لم يزد على قطع اليد والرجل من خلاف.
وقوله ـ عزوجل ـ : (أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَأَبْقى).
لو ذاق اللعين شيئا من عذاب ربه لم يقل مثل هذه المقالة ، ولو لا ما عرف من حلم ربه ، وإلا لم يتجاسر أن يتكلم بمثل هذا ويوعدهم أن عذابه أشدّ من عذاب الله تعالى.
وقوله ـ عزوجل ـ : (قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ).
أي : لن نؤثرك بالربوبية والعبادة لك والطاعة على ما جاءنا من البينات على ربوبية الله وألوهيته وعبادته.