فتناهوا قليلا ، ثم عادوا إلى أعمالهم ، وكذلك قالوا في قوله : (أَتى أَمْرُ اللهِ) [النحل : ١] تناهوا عنها ، ثم لما تأخر ذلك عنهم عادوا إلى ما كانوا من قبل ؛ هذا لأنهم فهموا من قرب الساعة وإتيان أمره وقتا يقرب ومدة تدنو ، فلما مضى ذلك وقع عندهم أن الخبر كذب فكذبوه ؛ لأنهم إنما قدروه بآجالهم وما عرفوا هم من القرب والدنو.
وقوله : (وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ) ما ذكرنا من غفلة تكذيب وإعراض ، تكذيب بعد ما عرفوا أنها آيات ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ).
قوله : (مِنْ ذِكْرٍ) ما يذكرهم ما يأتون وما يتقون.
أو ما يذكر ما أوعدوا وخوفوا.
أو (مِنْ ذِكْرٍ) يذكرهم ما لهم وما عليهم.
وقوله : (مُحْدَثٍ) قال بعضهم : محدث : محكم أحكمه من أن يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه ، وأحكمه لما أعجز الخلق عن أن يأتوا بمثله.
وقال بعضهم : محدث ؛ لأن الله أنزل هذا القرآن بالتفاريق وأحدث إنزاله في كل وقت على قدر الحاجة ، فعلى ما نزل بالتفاريق أحدثوا هم ـ أعنى الكفرة ـ تكذيبه ورده على ما ذكر ، فزادهم رجسا إلى رجسهم ونحوه ، فهو محدث من الوجوه التي ذكرنا ؛ لأن كل موصوف بالإتيان فهو محدث.
وقوله ـ عزوجل ـ : (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ).
دل قوله : (إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) أن استماعهم إياه استماع استهزاء به (١).
وقوله ـ عزوجل ـ : (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) هذا الذي أسروا فيما بينهم (٢)(هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ) ، هذا كان نجواهم.
وقوله : (لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ) ، قيل : غافلة قلوبهم عن الذكر ، (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) الذي أسروه هو ما ذكرنا قولهم : (هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَفَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَأَنْتُمْ تُبْصِرُونَ) السحر.
وفي حرف ابن مسعود وأبي : وأسروا النجوى الذين كفروا منهم ، وقال الكسائى : وفي بعض الحروف : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا) ، قال : وفي حرفنا : (وَأَسَرُّوا النَّجْوَى).
__________________
(١) ينظر : اللباب (١٣ / ٤٤٨ ـ ٤٤٩).
(٢) ينظر : اللباب (١٣ / ٤٤٩).