جهة يذهب الاحتجاج بها عليهم ، والله أعلم.
وقوله ـ عزوجل ـ : (ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ).
قوله : (نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ) للتفكر والنظر في قول إبراهيم حيث قال : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) ، إنما علق فعل الكبير بهم إن نطقوا ، فقالوا : لقد علمت يا إبراهيم ما هؤلاء ينطقون ، فكيف قلت : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ) ، فإذا كانوا لا ينطقون لم يفعل كبيرهم ، ثم قال : (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ) فإن قيل : إن إبراهيم لم يحتج عليهم أن كيف تعبدون من دون الله ما لا ينطق؟ ولكن قال : (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَلا يَضُرُّكُمْ).
قيل : قد كان احتج عليهم من ذلك النوع حيث قال : (هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ. أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ) [الشعراء : ٧٢ ، ٧٣] وبعد فإنه قد احتج عليهم بعجزهم عن النطق حيث قال : (فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) ، ثم قال هاهنا : (أَفَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً) إن عبدتموهم (وَلا يَضُرُّكُمْ) إن تركتم عبادته.
(أُفٍّ لَكُمْ وَلِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللهِ) أف : هو كلام كل مستخف بآخر ومستحقر له في فعله ؛ يقول : (أُفٍّ لَكُمْ) ، فإبراهيم حيث قال ذلك لهم إنما قال استخفافا بهم وبما عبدوه ، (أَفَلا تَعْقِلُونَ) : أن عبادة من لا ينفع ولا يضر لا تصلح ولا تحل.
وفي أنباء إبراهيم خصال ليست تلك في غيرها من الأنباء :
إحداها : أنه لم يترك صنما كان يعبد دون الله إلا وقد نقض ذلك.
والثانية : أنه حاج قومه أولا في فساد مذاهبهم وفساد ما اعتقدوه ، ثم بعد ذلك أقام عليهم حججه وبراهينه ؛ لأنه قال : (هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ) [الأنعام : ٧٧] ، وقال : (بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ) ، وقال : (فَإِنَّ اللهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ) [البقرة : ٢٥٨] ، فلما أراهم فساد مذهبهم ، فعند ذلك ذكر حججه وبراهينه حيث قال : (إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفاً) [الأنعام : ٧٩] ، وقال : (الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ ...) الآية [الشعراء : ٧٨] ، وهكذا الواجب على كل متناظر أن يبدأ أولا بإظهار فساد مذهب خصمه ، فإذا أراه فساد مذهبه ، فحينئذ يذكر حجج مذهبه وبراهين ما يعتقد ؛ ليكون لها أسمع وعند إقامتها أقبل.
والثالثة : أنه لم يبتل نبي قط بفرعون مثل فرعونه ولا قوم مثل قومه في السفه والبغض والهم بقتله بالنار.
وجائز أن يكون خصوصية الخلة لهذه الخصال التي ذكرناها ، والله أعلم.