وهذا عندنا أصل الاجتهاد والاستحسان ؛ لأن الكائل إنما يجتهد في توفيته الحق ، ولا يعلم يقينا أنه وفى ما كان عليه من الكيل الذي سمياه في العقد ؛ فعلى ذلك الاستحسان إنما هو اجتهاد العالم في اختيار أحسن ما يقدر عليه إذا لم يكن للحادثة أصل يردها عليه ويشبهها به ، والله أعلم.
قوله ـ عزوجل ـ : (وَلا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً).
ليس النهي عن المشي نفسه ؛ إنما النهي للمشي المرح ، ثم النهي عن الشيء يوجب ضدّه ، وكذلك الأمر ، ثمّ إن النهي عن الشيء يوجب الأمر بضده ؛ [والأمر بالشيء يوجب النهي بضده](١) وهاهنا نهي عن المرح ؛ فيكون أمرا بما ذكر ؛ كقوله : (وَعِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً) [الفرقان : ٦٣] ، وقال بعضهم (٢) : مرحا : بطرا وأشرا ، وقيل : متعظما متكبرا بالخيلاء.
وقوله ـ عزوجل ـ : (إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً).
قال بعضهم : ذكر خرق الأرض وبلوغ الجبال طولا ؛ لأن من الخلائق من يخرق الأرض ويدخلها ، ويبلغ طول الجبال ، وهم الملائكة ، ثم لم يتكبّروا على الله ولا تعظموا عليه ولا على رسوله ؛ بل خضعوا له ؛ فمن لم يبلغ في القوة والشدّة ذلك ـ أحرى أن يخضع له ويتواضع ولا يتكبر.
ويحتمل أن يكون ذكر هذا ؛ لما أنهم كانوا يسعون في إطفاء هذا الدين ، وقهر رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، فيقول : كما لم يتهيأ لكم خرق الأرض وبلوغ الجبال طولا ـ لم يتهيأ لكم إطفاء دين الله ، وقهر رسوله ، وهو ما ذكر : (إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ) [غافر : ٥٦] ، أو يذكر هذا يقول : إنك لن تبلغ بكبرك وعظمتك مرتبة الرؤساء والقادة ومنزلتهم ، على هذا التمثيل يحتمل أن يخرج ، والله أعلم.
أو يقول : إنك لن تخرق الأرض ، أي : لا تقدر أن تخرق [الأرض](٣) ؛ فتستخرج ما فيها من الكنوز والمنافع ؛ فتنتفع بها ، ولا تقدر أن تبلغ الجبال طولا ؛ فتنتفع بما في رءوس الجبال من المنافع ، وكيف تتكبر وتمرح على غيرك ، وهو مثلك في القوّة والشدّة. وأصل الكبر أن من عرف نفسه على ما هي عليه من الأحداث والآفات وأنواع الحوائج ـ لم يتكبّر على مثله ، والله أعلم.
__________________
(١) سقط في أ.
(٢) قاله البغوي (٣ / ١١٥).
(٣) سقط في أ.