والله أعلم.
وقوله : (فَقالُوا أَنُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَقَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ).
قال بعضهم (١) ، تعجب : نرفعهم بعد ما كنا غالبين عليهم؟!! نجعلهم غالبين علينا وكانوا لنا عابدين؟! أي : نرفعهم فوقنا ونكون تحتهم ، ونحن اليوم فوقهم وهم تحتنا ، كيف نصنع ذلك؟! وذلك ـ والله أعلم ـ حين أتوهما بالرسالة.
(فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ) :
صاروا من المهلكين بالتكذيب.
وقوله : (وَلَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ).
يشبه أن يكون حرف (لعل) لموسى ، أي : آتينا موسى الكتاب ؛ لعلهم يهتدون عنده ، و (لعل) حرف رجاء وترج ؛ لكن يستعمل مرة : على الإيجاب والإلزام ، ومرة : على النهي ؛ كقوله : (لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ) [الشعراء : ٣] ، أي : لا تبخع نفسك ، وقوله : (فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ) [هود : ١٢] أي : لا تترك بعض ما يوحى إليك ، وذلك جار في اللغة ؛ يقول الرجل لآخر : لعلك تفعل كذا ، أي : لا تفعل ، ونحوه ، [و] (لعل) من الله يحتمل الإيجاب والإلزام والنهي ، ومن الخلق : [يحمل] على النهي والترجي ، والله أعلم.
وقوله : (وَجَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَأُمَّهُ آيَةً).
خص ـ عزوجل ـ عيسى وأمه بأن جعلهما آية ، وجميع البشر في معنى الآية واحد ؛ إذ خلقوا جميعا من نطفة ، ثم حولت النطفة علقة ، والعلقة مضغة ، إلى آخر ما ينتهي إليه ؛ فيصير إنسانا ؛ فالآية والأعجوبة في خلق الإنسان من النطفة ومما ذكرنا إن لم تكن أكثر وأعظم لم تكن دون خلقه بلا أب ولا زوج وما ذكر ، لكنه خصّهما بذكر الآية فيهما ؛ لخروجهما عن الأمر المعتاد في الخلق ، والعادة الظاهرة فيهم أن يخلقوا من النطفة والأب والتزاوج [والأسباب التي] جعلت للتوالد والتناسل الذي تجري فيما بينهم والأسباب التي جعل للتوالد في الخلق ؛ لخروجهما عن الأمر المعتاد والعادة الظاهرة خصّهما بذكر الآية والأعجوبة في خلق البشر من النطفة ، وما ذكر إن لم يكن أكثر وأعظم لم يكن دونه ، وهو كما خصّ بني إسرائيل بالخطاب بالشكر ؛ لما أنعم عليهم من المن والسلوى ، ولما أنجاهم من آل فرعون بقوله : (اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ) [إبراهيم : ٦] ، وقال : (يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ)
__________________
(١) قاله ابن زيد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٥٠٧) وانظر : الدر المنثور (٥ / ١٧).