[البقرة : ٤٧] ، وقد كان عليهم من النعم ما هو أعظم وأكثر مما ذكر من المنّ والسلوى ونجاتهم من فرعون وآله ، لكنه خصّهم بذكر المنّ والسلوى واستأدى منهم الشكر بذلك من بين سائر النعم ؛ لأنها خرجت عن المعتاد من النعم المعروفة ، وهم كانوا مخصوصين بهذا من بين غيرهم ؛ فعلى ذلك عيسى وأمه : كانا خارجين عن الأمر المعتاد ومخصوصين بذلك ؛ لذلك خصّهما بذكر الآية ، والآية ما ذكر بعض أهل التأويل (١) أنه خلق من غير أب ، ولدته أمه من غير فعل أمثالها.
وقال بعضهم : الآية في عيسى : بأن كلم الناس في المهد صبيّا ، ونحوه : من إبراء الأكمه ، والأبرص ، وإحياء الموتى ، ومثله.
وقوله : (وَآوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ).
ذكر أنه آواهما إلى ربوة كما يؤوي الأب والأم الولد إلى مكان يتعيش به ؛ إذ الربوة هي مكان التعيش فيه ؛ ألا ترى أنه ذكر (ذاتِ قَرارٍ وَمَعِينٍ) هو المكان الذي يستقر فيه ويتعيش.
وقوله : (وَمَعِينٍ) ، المعين : هو الماء الجاري الظاهر الذي تأخذه العيون ، وتقع عليه الأبصار.
وقوله : (يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَاعْمَلُوا صالِحاً).
قال عامة أهل التأويل : إنما خاطب بهذا محمدا خاصّة ، على ما يخاطب هو ، والمراد منه : جميع أمته في ذلك.
ولكن جائز أن يقال : خاطب به جميع الرسل ؛ لأنهم جميعا مخاطبون بهذا كله : من أكل الطيبات ، والعمل الصالح ، هذا الخطاب فيه وفي غيرهم ؛ إذ عمهم جميعا بهذا.
ثم الطيبات يحتمل أن يراد بها الحلالات ؛ كأنه قال : كلوا حلالا غير حرام ؛ ألا ترى أنه قال : (وَاعْمَلُوا صالِحاً) ، أي : اعملوا صالحا ، ولا تعملوا سيئا ؛ فعلى ذلك قوله : (كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) ، أي : كلوا حلالا ولا تأكلوا حراما : ما خبث.
وفيه أنهم يمتحنون كما يمتحن غيرهم بالأمر والنهي.
ويحتمل ـ أيضا ـ قوله : (كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ) : ما طابت به أنفسكم وتلذذت ، فإن كان على هذا فهو يخرج على الإباحة والرخصة ، ليس على الأمر ، معناه : لكم أن تأكلوا ما تطيب به أنفسكم ، ولكم أن تؤثروا غيركم به على أنفسكم.
وإن كان على الأمر فهو على الأمر يخرج والنهي ، والله أعلم.
__________________
(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير (٢٥٥٠٨) ، وانظر : الدر المنثور (٥ / ١٧).