اختلف فيه : قال بعضهم (١) : (وَلَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ) ، أي : من دون ما عمل أولئك الكفرة من الأعمال التي تقدم ذكرها : من قوله : (فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ* أَيَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَبَنِينَ* نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ* إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ) على ما ذكر ، ثم أخبر أن لهم أعمالا دون ما ذكر.
وقال قائلون : (وَلَهُمْ أَعْمالٌ) ، يعني : المؤمنين الذين ذكر أعمالهم ، أي : لهم أعمال دون الذي ذكر لهم دون تلك الأعمال (٢).
وقوله : (حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ).
قال أهل التأويل : ذلك في العذاب الذي أخذ أهل مكة في الدنيا من الجوع الذي نزل بهم حتى أكلوا الجيف والعظام المحرقة ونحوه.
لكن الأشبه أن يكون ذلك في عذاب الآخرة ؛ ألا ترى أنه يقول : (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) أي : يتضرعون.
ويقول أيضا : (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ) فإنما يخبر : أن كنتم تفعلون كذا في الدنيا ، ويذكر : (إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ) ؛ فلا يحتمل أن يتضرعوا إليه في الدنيا ، ثم لا يقبل منهم ذلك التضرع ، أو ينهاهم عن التضرع بقوله : (لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ) ؛ فدل ذلك أنه في الآخرة ، وهو ما ذكر : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا ...) الآية [غافر : ٨٤] ؛ مثل هذا يكون في الآخرة ، وفي الدنيا ما ذكر : (وَلَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَما يَتَضَرَّعُونَ) [المؤمنون : ٧٦] : ذكر في عذاب الدنيا أنهم لم يتضرعوا في الدنيا عند نزول العذاب بهم ، [و] لا يقبل منهم التضرع والاستكانة ؛ دل ذلك أنه ما ذكرنا ؛ ألا ترى أنه قال :
(لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ).
نهاهم عن التضرع ، ولا يحتمل النهي عن ذلك.
وقوله : (إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ).
أي : لا تمنعون من عذابه.
وقوله : (قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ).
قوله : (عَلى أَعْقابِكُمْ) ترجعون على التمثيل ، ليس على التحقيق ؛ لأنهم إذا رجعوا على الأعقاب صار ما كان أمامهم وراءهم ؛ فكأنهم نبذوا ذلك وراء ظهورهم.
أو أن يكون المنقلب على الأعقاب كالمكب على الوجه ، والمكب على وجهه مذموم
__________________
(١) قاله قتادة ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٥٥٧٣).
(٢) ينظر : اللباب (١٤ / ٢٣٦).