الرسل ، ثم [لم] يأت هؤلاء شيء إلا ما أتى آباءهم ، لم يخصوا هم بالرسول ؛ فكيف أنكروه؟! ألا ترى أنهم قالوا : (لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ) [فاطر : ٤٢] : قد أقرّوا أن في الأمم المتقدمة رسولا ؛ حيث قالوا : (لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ).
وعلى ذلك يخرج قوله :
(أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ).
أي : قد عرفوا رسولهم ، لكنهم أنكروه وتركوا اتباعه ؛ لما ذكرنا في القرآن من أحد الوجهين ؛ عنادا وتكبرا ؛ إشفاقا على رياستهم لكي تبقى ؛ ألا ترى أنه قال : (يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ ...) الآية [البقرة : ١٤٦].
وعلى هذا ، (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ).
أي : قد عرفوا أنه ليس به جنة.
وجائز أن يكون قوله : (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) : جاء هؤلاء ما لم يأت آباءهم ، وخصّ هؤلاء ما لم يخص آباءهم. وكذلك قال ابن عباس : لعمري لقد جاءهم ما لم يأت آباءهم الأوّلين.
وجائز أن يكون قوله : (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ) : إلى ما ذكر من قوله : (أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ) ؛ لأنه يخرج على الأمر بالتدبر فيه ، ومعرفة الرسول أنه ليس كما يصفونه من الجنون وغيره ؛ كقوله : (أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ) [الروم : ٨] ، أي : تفكروا فيه ؛ فإنه ليس به جنة على ما يصفونه ، أو على ما ذكرنا : أنهم تفكروا وعرفوا : أنه ليس به جنون ، ولا شيء مما وصفوا به ؛ لكنهم أرادوا أن يلبسوا أمره على أتباعهم وسفلتهم ؛ إشفاقا على إبقاء ما ذكرنا.
وقال بعضهم : قوله : (أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) : من البراءة من العذاب.
وقوله : (بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ).
بالرسالة والقرآن من عند الله ، وجعل العبادة [له] من دون الأصنام التي عبدوها.
[وقوله :](وَأَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ).
كرهوا الحق ؛ لما ظنوا أن في اتباعه ذهاب الرئاسة والأسباب التي كانت لهم على أتباعهم ، بعد معرفتهم أنه حق ، أو كرهوا ؛ لما لم يعرفوا في الحقيقة أنه حق ، وإلا [لا] أحد ممن يوصف بصحة العقل وسلامته يكره الحق ويترك اتباعه ؛ إلا للوجهين اللذين ذكرناهما ، والله أعلم.
وقوله : (وَلَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ).