أي : إني جزيتهم اليوم الفوز بما صبروا في الدنيا على أذى أولئك الكفرة ، أو على أداء ما أمروا به ونهوا عنه.
أو أن يكون ذلك كقوله : (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا) ، ونصره إياهم هو أن صارت لهم عاقبة ، والله أعلم.
وقوله : (قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ* قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ).
اختلف فيه : قال مقاتل بن سليمان : في القبور.
وقال أبو معاذ : أخطأ مقاتل ، وذلك قول من ينكر عذاب القبر (١) ، وهو قول الجهمية ؛ لأن من كان في عذاب وشدة لا يقتصر المقام فيه كل هذا الاقتصار ، حتى يقول : لبثت يوما أو بعض يوم ؛ بل يزداد له مقام يوم في العذاب على سنة وأكثر ، قال : إلا أن يكون عني ما بين النفختين حين تؤخذ الأرواح فترقد ، فإذا بعثوا استقلوا رقدة ذلك المقدار ؛ بما كانوا قاسوا قبل الرقدة من العذاب في القبور ، إلى هذا يذهب بعض أهل التأويل.
وجائز عندنا ما قال مقاتل ومحمد بن إسحاق : بأن ذلك يكون في القبر ، وذلك لا يدل على نفي عذاب القبر ؛ لأنهم لا يعذبون في القبور بالعذاب الذي يعذبون في الآخرة ؛ فجائز أن يستقلوا عذاب القبر بعذاب الآخرة ، ويستقصرون ذلك الوقت بعذاب الآخرة لشدته وأهواله ، وذلك جائز في متعارف الخلق أن يكون الرجل في بلاء وشدة ، ثم يزداد له البلاء والشدة ؛ فيستقل ذلك البلاء الذي كان به لشدة ما حلّ به ؛ فعلى ذلك هم : جائز أن يكونوا في عذاب في قبورهم ، لكنهم إذا عاينوا عذاب الآخرة استقلوا عذاب القبر واستقصروه ؛ لشدة عذاب الآخرة.
أو أن يكون عذاب القبر : على النفس الروحاني الدراك الذي يخرج في حال النوم ليس على روح الحياة ، [مثل] النائم يرى نفسه في بلاء وعذاب في نومه ، ويكون في أفزاع ، وكانت نفسه ملقاة في مكان لا علم لها بذلك ولا خبر ، وبها آثار الأحياء ؛ فجائز أن يكون عذاب القبر على هذا السبيل على الروح التي بها يدرك الأشياء ، لا على روح الحياة التي بها يحيا.
وقال قائلون (٢) : ذلك في الدنيا : استقلوا حياة الدنيا لحياة الآخرة ، وهو كقوله : (فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ) [التوبة : ٣٨] ؛ ألا ترى أنه قال : (فَسْئَلِ الْعادِّينَ) : هذا يدل على أن ذلك في الحياة الدنيا أشبه ؛ حيث أمر أن يسأل الذين يعدون ،
__________________
(١) ينظر : اللباب (١٤ / ٢٦٩).
(٢) قاله ابن جرير (٩ / ٢٥٢).