ورفع عنهم الجناح في مؤاكلتهم ، فيقول : إن الحق عليهم أن يرجوكم ؛ لما بكم من الزمانة وأن يدعوا لكم بالرفع عنكم ، لا التقذذ والاستقذار عنكم.
وقال بعضهم (١) : إن الرجل الغني كان يدخل على الرجل الفقير والزمن فيدعوه إلى طعامه ، فيقول : والله إني لأجنح وأحرج أن آكل من طعامك وأنا غني وأنت فقير ؛ فأنزل الله في ذلك : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ ...) إلى آخر الآية.
وقال بعضهم (٢) : كان هذا في أهل الجهاد ، وأن الرجل كان يخرج إلى الجهاد فيخلف آخر في منزله في حفظ ماله وأهله ، والقيام بكفايتهم ، فكان يحرج ولا يأكل من ماله شيئا ولا من طعامه لما لم يسبق منه الإذن في ذلك ؛ فأنزل الله في ذلك رخصة إباحة التناول من ذلك.
إلى هذا انتهت أقاويل (٣) أهل التأويل وتأويلهم.
والأشبه عندنا أن يكون تأويل الآية في غير ما ذهبوا هم إليه ، وهو أن يكون قوله : (لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَلا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَلا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ) أي : ليس على هؤلاء حرج أن يأكلوا من بيوت آبائهم وأمهاتهم ، أو بيوت إخوانهم ، أو بيوت أخواتهم ، أو بيوت أعمامهم إلى قوله : (أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ) ؛ لأنهم إنما يأكلون بالحق ؛ لأن من كان به زمانة كان له التناول من أموال من ذكر من الآباء والأمهات والقرابات ؛ إذ تفرض لهم النفقة في أموالهم ؛ فيكون في ذلك دلالة وجوب النفقة لهم في أموالهم ، ويكون (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ) أي : لا بأس أن تأكلوا من بيوتكم ، أو ما ملكتم مفاتحه ، أو من بيوت صديقكم ؛ إذ ليس يباح للرجل التناول من مال نفسه ومن مال صديقه في حال عذر ، ولا يباح في حال الصحة والسلامة ؛ بل يباح في الأحوال كلها دل أن التأويل الذي ذكرنا أشبه ، فيصرف تناول الزمنى في أموال القرابات بحق النفقة والحق ، ومن ليس به زمانة في ماله ومال صديقه بحق الملك والصداقة ؛ لأن الزمانة ترفع الصداقة من بينهم ، وكذلك وجوب النفقة في مال الصديق يرفع الصداقة ، ولا يرفع القرابة ، ولا تزول صلتها.
ثم اختلف في قوله : (وَلا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ) قال بعضهم : من بيوت أولادكم.
__________________
(١) قاله ابن عباس ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٦٢٣٢).
(٢) قاله ابن زيد ، أخرجه ابن جرير عنه (٢٦٢٢٥).
(٣) في أ : تآويل.