أو أن يذكر هذا ؛ لقطع ما يرجون من دون الله من كشف ضرّ عنهم ودفعه ، أو جر نفع إليهم وسوق خير ، على ما أخبر أنه لا يملك ذلك أحد سواه كقوله : (ما يَفْتَحِ اللهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ ...) الآية [فاطر : ٢] ، وقوله : (وَإِنْ يَمْسَسْكَ اللهُ ...) الآية [الأنعام : ١٧] : أخبر أنه لو فتح هو رحمة لا يملك أحد دونه إمساكها ، ولو أمسك هو لا يملك أحد إرسالها دونه ، ولو مسّ ضرّ لا يملك أحد كشفه ، وإن أراد خيرا لا يملك أحد دفعه ورده.
هذا يذكر ـ والله أعلم ـ للمسلمين ؛ لئلا يرجوا أحدا من الخلائق دون الله ولا يخافوا أحدا سواه.
ثم صرف أهل التأويل تأويل الآية إلى الملائكة ، لكن الآية تحتمل كل معبود دون الله : الملائكة والجنّ والأصنام التي عبدوها.
وأمّا الآية الثانية التي تتلوها ظاهرها في الملائكة والجن ، وهو قوله : (أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ).
أي : أولئك الذين يعبدون من دون الله يبتغون هم إلى ربهم الوسيلة أيهم أقرب (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ ...) الآية [الإسراء : ٥٧] : اختلف فيه :
منهم من صرفها إلى الملائكة.
ومنهم من صرفها إلى الجنّ ، وهو قول عبد الله بن مسعود (١) ـ رضي الله عنه ـ يقول : إن قوما من العرب كانوا يعبدون الجن ، ثمّ أسلم الجنّ ، فبقى أولئك [كما] كانوا يعبدونهم بعد إسلامهم ؛ فيقول : أولئك الذين [يعبدون من دون الله](٢) يبتغون إلى ربهم الوسيلة ؛ فكيف تعبدونهم؟!.
ومن قال : إنها في الملائكة ـ اختلفوا في قوله : (وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَيَخافُونَ عَذابَهُ) : قال الحسن : يرجون محبته ورضاه ، (وَيَخافُونَ عَذابَهُ) ، أي : خوف الهيبة والجلال (٣) والعظمة لا خوف عذاب النار ونقمته ؛ لأن الله ـ تعالى ـ عصمهم من أن يرتكبوا ما يوجب لهم النقمة والعذاب ؛ حيث قال : (لا يَعْصُونَ اللهَ ما أَمَرَهُمْ) ، وقال : (لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَلا يَسْتَحْسِرُونَ) ، وقال في قوله : (وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ) [الأنبياء : ٢٩] : هذا إخبار أنهم لو قالوا ذلك لفعل بهم ما ذكر ليس
__________________
(١) أخرجه البخاري (٤٧١٥) ، وعبد الرزاق والفريابي وسعيد بن منصور وابن أبي شيبة والنسائي وابن جرير (٢٢٣٧٥) ـ (٢٢٣٧٨) ، وابن المنذر وابن أبي حاتم والطبراني والحاكم وابن مردويه ، وأبو نعيم في الدلائل عنه ، كما في الدر المنثور (٤ / ٣٤٣) ، وهو قول قتادة أيضا.
(٢) في ب : يدعون من دونه.
(٣) في ب : والإجلال.