قيل : إنا قد ذكرنا لكم في غير موضع جواب السؤال : إن المرء رحيم على نفسه ، وله الرحمة والشفقة عليها ، ثم مع ذلك يحمل على نفسه الشدائد والمؤن العظام ؛ لما يأمل من النفع في العاقبة : من نحو الحجامة ، والافتصاد ، وشرب الأدوية الكريهة ، ما لو لا [ما] يأمل من النفع في العاقبة ـ ما تحمل ذلك.
وكذلك الوالدان فيهما من الرحمة والرأفة لولدهما ما لا يخفى ذلك على أحد ، ثم يحملان على ولدهما ما ذكرنا من الشدائد والمؤن العظام ؛ لما يأملون من النفع لهم في العاقبة ، ثم لا يمنع ذلك من الوصف بالرحمة والرأفة ؛ فعلى ذلك الله ـ سبحانه وتعالى ـ لا يمنع ما يحمل علينا من الشدائد عن أن يوصف بالرحمة ، ولا يخرجه ذلك عن الحكمة ؛ بل هو على ما قال : (وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ) [يوسف : ٦٤ ، ٩٢].
وقوله ـ عزوجل ـ : (وَإِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) :
أي : بطل ما كانوا يأملون من عبادتهم الأصنام إلا العبادة التي كانت لله ؛ فإنه لم يبطل ما يؤمل من عبادتهم إياه ؛ لأنهم كانوا يعبدون الأصنام والأوثان ، ويقولون : (هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللهِ) [يونس : ١٨] ، و (ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللهِ زُلْفى) [الزمر : ٣] : فأخبر ـ عزوجل ـ عن سفههم ؛ لعبادتهم الأصنام ، وعجزهم عما يأملون منها في الآخرة ، حيث لم يملكوا دفع شيء مما مسهم ، وكشف ما أصابهم في الدنيا ؛ فكيف يأملون ذلك في الآخرة.
أو أن يكون (ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلَّا إِيَّاهُ) ، أي : ضل الآلهة التي عبدوها دون الله إلا إله الحق المستحق للعبادة ؛ فإنه أعانكم ونجاكم من الهلاك.
وقوله ـ عزوجل ـ : (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) :
هكذا كانت عادتهم أنهم إذا خافوا الهلاك على أنفسهم ـ أخلصوا الدعاء لله ، كقوله : (فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ) [العنكبوت : ٦٥] الآية ، وكقوله : (وَجاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ*. فَلَمَّا أَنْجاهُمْ ...) [يونس : ٢٢ ، ٢٣](إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ) [الروم : ٣٣] [ونحوه](١).
ويحتمل قوله : (فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ) عن وفاء ما عهدتم ، وإنجاز ما وعدتم ؛ لأنهم قالوا : (لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ) ، فأعرضوا عن هذا الوعد ، ولم يوفوا ذلك.
__________________
(١) سقط في أ. وقد خلط المؤلف بين آيتي يونس والروم.