تضاهي ميادين القتال ، ومفازات البراري ، وما أكبر الدار التي هي إحدى غرفها! وأيّ يوم كان يوم قبول أبي بكر؟ تزدلف إليه فيه الرجال فتجلس على تلكم الكراسي ، ولِمَ لا نسمع من السير والتواريخ عن ذلك اليومِ ركزاً؟ أكان في أفواه الجالسين عليها أوكية عن نقل شيء من حديثه؟ وطبع الحال يقضي أن يكون في ذلك المحتشد العظيم المتكرّر في كلّ أسبوع ، وعلى الأقلّ في كلّ شهر. وأقلّ منه في كلّ سنة ، ولا أقلّ من انعقاده في العمر مرّة ، من الأنباء ما لا يلهو التاريخ عن ذكره ، ولا يستسهل المؤرّخ تركه ، لكنّك بالرغم من ذلك كلّه لا تجد عنه إلاّ همساً يتخافت به العبيدي بعد لأي من عمر الدهر.
ومن أيّ حرفة أو مهنة أو صنعة أو ضياع حصل الرجل على مليون أوقية من النقود؟ وكان يومئذٍ يوم فاقة لقريش ، وكانوا كما وصفتهم الصدِّيقة الطاهرة في خطبتها مخاطبة أبا بكر والقوم معه : «كنتم تشربون الطَّرَق (١) وتقتاتون الورق ، أذلّة خاشعين تخافون أن يتخطّفكم الناس من حولكم فأنقذكم الله برسوله» (٢).
ولعلّ في ذلك اليوم كان ما رواه الماوردي في أعلام النبوّة (٣) (ص ١٤٦) من طريق مالك بن أنس أنّه بلغه أنّ رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم دخل المسجد فوجد أبا بكر وعمر رضي الله عنهما فسألهما فقال : ما أخرجكما؟ فقالا : أخرجنا الجوع. فقال رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم : وأنا أخرجني الجوع فذهبوا إلى أبي الهيثم بن التيّهان فأمر له بحنطة أو شعير عنده يعمل. الحديث.
ثمّ متى أدركت عائشة العهد الجاهلي وقد ولدت بعد المبعث بأربع أو خمس
__________________
(١) الطرق بفتح المهملة : الماء المجتمع الذي خيض فيه وبيل وبعر فكدر. لسان العرب [٨ / ١٥١] (المؤلف)
(٢) بلاغات النساء : ص ١٣ [ص ٢٤] ، أعلام النساء : ٣ / ١٢٠٨ [٤ / ١١٧]. (المؤلف)
(٣) أعلام النبوة : ص ٢٢٠ باب ٢٠.