تفسير أبي مسلم في الفتنة يكون قد غي بأمرين مختلفين : أحدهما : انتفاء القتال في الحرم ، والثاني : خلوص الدين لله تعالى.
قيل وجاء في الأنفال : (وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ) (١) ولم يجىء هنا : كله ، لأن آية الأنفال في الكفار عموما ، وهنا في مشركي مكة ، فناسب هناك التعميم ، ولم يحتج هنا إليه.
قيل : وهذا لا يتوجه إلّا على قول من جعل الضمير في : وقاتلوهم ، عائدا على أهل مكة على أحد القولين ، وراجع رجل ابن عمر في الخروج في فتنة ابن الزبير مستدلا عليه بقوله : (وَإِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا) (٢) فعارضه بقوله : (وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً) (٣) فقال : ألم يقل : (وَقاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ)؟ فأجابه ابن عمر بأنا فعلنا ذلك على عهد رسول الله صلىاللهعليهوسلم ، إذ كان الإسلام قليلا ، وكان الرجل يفتن عن دينه بقتله أو تعذيبه ، وكثر الإسلام فلم تكن فتنة ، وكان الدين لله ، وأنتم تقاتلون حتى تكون فتنة ويكون الدين لغير الله.
(فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ). متعلق الانتهاء محذوف ، التقدير : عن الشرك بالدخول في الإسلام ، أو عن القتال. وأذعنوا إلى أداء الجزية فيمن يشرع ذلك فيهم ، أو : عن الشرك وتعذيب المسلمين وفتنتهم ليرجعوا عن دينهم ، وذلك على الاختلاف في الضمير ، إذ هو عام في الكفار ، أو خاص بكفار مكة.
والعدوان مصدر عدا ، بمعنى : اعتدى ، وهو نفي عام ، أي : لا يؤخذ فرد فرد من أنواعه البتة إلّا على من ظلم ، ويراد بالعدوان الذي هو الظلم الجزاء. سماه عدوانا من حيث هو جزاء عدوان ، والعقوبة تسمى باسم الذنب ، وذلك على المقابلة ، كقوله : (وَجَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها) (٤) (فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللهُ) (٥) وقال الشاعر :
جزينا ذوي العدوان بالأمس فرضهم |
|
قصاصا سواء حذوك النعل بالنعل |
__________________
(١) سورة الأنفال : ٨ / ٣٩.
(٢) سورة الحجرات : ٤٩ / ٩.
(٣) سورة النساء : ٤ / ٩٣.
(٤) سورة الشورى : ٤٢ / ٤٢.
(٥) سورة آل عمران : ٣ / ٥٤.