بحث مجدا ، ولم يظفر بشيء فهو غير مسؤول ، حتى ولو كان البيان موجودا في الواقع.
وهذه الحقيقة من أولى البديهيات العقلية ، وأي عاقل يعاتب غيره على أمر يجهله من غير تقصير! وقد أجمع الفقهاء كلمة واحدة على هذا المبدأ ، وأقره الشرع في العديد من الآيات والروايات ، فمن الآيات ما نحن بصددها : (مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ). والآية ١٥ من الاسراء : (وَما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً). ومن الروايات قول الرسول الأعظم (ص) : (رفع عن أمتي ما لا يعلمون) وسنعود الى الموضوع كلما وصلنا إلى آية تشعر به.
(إِلَّا الَّذِينَ تابُوا وَأَصْلَحُوا وَبَيَّنُوا). أي ان الذين يكتمون الحق ملعونون إلا من تاب وندم على ما فرط ، وأصلح سريرته بالإخلاص في توبته عازما على عدم العودة الى المعصية ، وان يبين صراحة ما كان قد كتمه من قبل .. فان مجرد ندم السارق لا يكفي في توبته ما لم يرجع الحق إلى أهله.
(فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ). التواب من صفات الله تعالى ، ومعناه القابل توبة من تاب ، وهو مبالغة في القبول ، واقترن الرحيم بالتواب للتنبيه على ان السبب في قبول التوبة عمن أساء هو رحمته تعالى بعباده.
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَماتُوا وَهُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللهِ وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ). حتى من كفر بالله وجحده يقبل الله توبته إذا تاب وأناب ، ويغفر له ، ويرحمه ، ولا يعذب إلا من مات مصرا على الكفر والمعصية ، لأنه ، والحال هذه ، مستحق للعنة أهل السماء والأرض.
وتسأل : كيف قال الله سبحانه : والناس أجمعين ، مع العلم بأن في الناس من لا يلعن الكافر ، بخاصة أهل دينه الذين هم على شاكلته؟.
الجواب : ان القصد من قوله : (وَالْمَلائِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ) ان من مات على الكفر هو أهل ومحل للعنة أهل الأرض والسماء ، سواء ألعنوه بالفعل أم لم يلعنوه ، حتى ولو كانوا كفارا مثله فهو أهل للعنتهم .. وقد جاء في القرآن الكريم ان الكفار غدا يلعن بعضهم بعضا : (ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً) ـ العنكبوت ٢٥».
(خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَلا هُمْ يُنْظَرُونَ). ومعنى الخلود